صفحات مختارة

الآخرون .. الخصوم.. كلهم على خطأ

راسم المدهون
ما أقرأ في صفحات الكتّاب والشعراء الفلسطينيين الشباب في المواقع الالكترونية ومنها الفيسبوك يثير حزني. فالجدل حول قضية أدبية ما، يتحوّل بسرعة البرق إلى تناقض، بل إلى تناقض حاد و”مصيري”، حيث دائما هناك من هو مبدئي، في مقابل من يختلفون معه من “التفريطيين” أو المساومين.
هي دائما وللأسف “حكاية إبريق الزيت”، فالحق معي ولا يجوز أن يكون بعضه أو حتى شيء منه مع الآخرين.
نتحدث عن الأدب وقضاياه وشجونه فنجد بسرعة من يستلم الدفّة لينقل الحوار كلّه إلى مربعات الاختلاف، حتى بتُ أعتقد جادا أن الاختلاف عند كثر من الفلسطينيين هو رغبة أكثر منه حاجة للتعبير عن مواقف حقيقية.
الملاحظة الأبرز هي في ذلك اللجوء الفج، وغير المنطقي، للمزايدة بالمقاومة، ورفع تهم التفريط في وجوه الآخرين. حتى ولو قالت كل وقائع الحياة أن لا مقاومة مسلحة في فلسطين اليوم، فالمهم عند البعض كما هو واضح أن يعلن المرء انتماءه ل “ثقافة المقاومة” كما بتنا نقرأ ونسمع. ولا يهم بعد ذلك إن كان القائل معنيا حقا بالمقاومة، أو مستعدا للانخراط فيها كما فعل على مدار عقود عشرات الآلاف من أبناء جيلي، دون أن يسلموا مع ذلك من سيل التهم التي يركلها بهم شباب لم يطلقوا رصاصة، ولم يروا من المقاومة سوى أنها شعار يمكنه أن يمارس الإرهاب على خصومهم والمختلفين معهم في الرأي، وكلما “دق الكوز في الجرّة” كما يقولون.
قبل أسبوعين نشرت على صفحات الفيسبوك مقالة كنت نشرتها أصلا في ملحق “نوافذ” في جريدة “المستقبل” اللبنانية. المقالة حملت عنوان ” هل بديل المفاوضات العبثية المقاومة المسلحة؟”.
ما يعنيني الإشارة إليه هنا هو غرابة الردود: شاعر فلسطيني معروف كتب لي تعليقا مختصرا يقول: يا أخي فاوضو.. مين مانعكم؟
الرجل فهم أنني أدعو للمفاوضات، مع أنه لو قرأ العنوان بالذات لوجدني أصف المفاوضات بالعبثية، ناهيك طبعا عن رأيي الواضح فيها في متن المقالة.
تعليق الشاعر كما أوضحت في مقالة لاحقة ينطلق من عادة الثنائيات، فأي حديث عن ضرورة توفر ظروف موضوعية لانطلاق المقاومة المسلحة واستمرارها وانتصارها يعني للبعض أن الكاتب ضد المقاومة!!!
لعلّ هذا التفسير بالذات هو ما نعثر عليه في سؤال آخر أرسله لي أحد الكتاب في رسالة لا أزال أحتفظ بها في بريدي في الفيسبوك.السؤال الموجه لي يقول بالحرف: هل تظن أن المقاومة تحتاج للظروف الموضوعية؟
هنا بالذات مكمن الخطورة والاختلاف: كثر من المتحمسين يعتقدون أن المقاومة لا تحتاج إلا للإرادة الذاتية، ومن يقول بالظروف المناسبة إنما يقول ذلك لأنه في الحقيقة لا يريد ولا يؤيد المقاومة المسلحة.
هكذا ننقسم بين تيارين: الأول شجاع ومستعد للتضحية ويرغب في المقاومة المسلحة، والثاني لا يريد ولا يرغب، فلا تصدقوه ولو جاء بكل تحليلات العالم التي تقول أن لا ظروف موضوعية للمقاومة المسلحة.
وما دام الأمر أمر رغبات، فمن المنطقي أن يجوز التخوين والاتهام، إذ كيف يعقل أن لا يدعو من تقع أرض وطنه تحت الاحتلال للمقاومة المسلحة؟ كيف لا يفعل إلا إذا كان حقا تفريطيا مستسلما !!!!
ما لا يقبل الاعتراف به كثر هنا هو أن يكون الآخرون أصحاب رأي مختلف، أو وجهة نظر مغايرة. والألعن من هذا وذاك أن هناك دائما من يرفع في وجهك آراءه باعتبارها هي وليس سواها “الثوابت الوطنية” أو إذا شئنا لغة هذه الأيام “المقدسات”، مع معرفة كلّ عاقل أن لا ثوابت في السياسية، وأن الوطنية مسألة يختلف مفهومها من زمن لآخر، بل من مرحلة إلى أخرى، شرط أن تكون في الأزمان والمراحل كلها تنضوي تحت عنوان ما ينفع الشعب، وما ترتضيه أغلبيته.
أما المضحك المبكي في كلّ هذا فهو الاندفاع لكيل التهم حتى قبل معرفة جنسية المتهم وحالته: أتذكر أن واحدا شطبته من قائمة أصدقائي اندفع فورا لاتهام سيدتين بأنهما تقولان آراءهما بسبب أنهما ترتبطان بمكتسبات من السلطة. المفارقة أن أولى السيدتين المتهمتين فلسطينية من “وراء الخط الأخضر”، أو من مناطق الاحتلال الأول عام 1948، وهي طالبة دكتوراه في إحدى جامعات بريطانيا، حتى أنها استغربت تهمة “التفريغ” وطلبت مني أن أوضح لها ماذا تعني، فقلت لها ضاحكا أن التفريغ مصطلح من زمن فصائل المقاومة يعني التفرغ كليا للعمل في الفصيل. أما السيدة الثانية، وهي الصديقة نادية عيلبوني، والتي اتهمها بالارتباط بالسلطة، فكان يكفيه أن يفتح الغوغل على اسمها ليعرف أنها من أعلى الأصوات في الهجوم على السلطة وسياسات السلطة. ناهيك بالتأكيد عن أنها غادرت صفوف المنظمة مع عائلتها وهاجرت قبل عشرين سنة بالتمام إلى النمسا. بعد أن أمضت وعائلتها عشرين شهرا لم يستلم زوجها خلالها راتبه من عمله في “مركز الأبحاث” في منظمة التحرير الفلسطينية”.
مرّة أخرى أقول: لا أحد يريد أن يعترف بالتعددية وبالرأي الآخر، فإما وإما.
هي حال تثير الحزن وإن كنت لا أراها تثير الدهشة، ولعلي أتذكر هنا سيل اتهامات التخوين التي انهالت على رأس الراحل ياسر عرفات، حتى يوم كانت تنهال عليه قذائف الدبابات الإسرائيلية، لينقلب الحال لحظة وفاته وبصورة دراماتيكية جعلتني أسأل وأظلُ أسأل: هل يظلُ الفلسطيني خائنا حتى يقتل؟
هي ذهنية إطلاق أحكام التقييم على أساس إسم المتحدث وانتمائه الحزبي، حتى قبل أن يدلي برأيه. وهي آفة كما هو واضح وليدة التعصُب للرأي والانتماء، وما يخلقه من اعتقادات راسخة بأن الآخرين كلهم على خطأ. هي آفة رافقت مسيرة السياسة الفلسطينية بمختلف ألوانها وأيديولوجياتها، ولكنها في زمن الانحدار باتت أشد خطورة وأذى إذ هي انتقلت من عادة تسفيه الرأي الآخر إلى جريمة تخوين صاحبه، على نحو دفع الشاعر الراحل محمود درويش إلى وصف تلك اللغة بأنها “لغة الاغتيال”، متسائلا: ماذا يفعل قارئ نشرة سياسية يؤمن بما تقول ويصدق اتهاماتها سوى أن يطلق الرّصاص على ذلك الذي أعلنت نشرته الحزبية تخوينه.
أتذكر أن فصائل المقاومة الفلسطينية نظّمت عام 1974 مسيرة احتجاج على زيارة وزير خارجية الولايات المتحدة الأسبق هنري كيسنغر لبيروت، وحدث أنني عدت من المسيرة مبكرا ووقفت في الشارع أرقب العائدين، فسألت أحدهم عن أبرز ما لاحظه فقال بسخرية: تخيل أن الفصيل الفلاني كان محازبوه يسيرون وراء يافطة ضخمة كتبوا عليها: أهلا بك يا كيسنغر!!!
ليس الرأي ما يُناقش غالبا بل إسم قائله وانتماؤه، فذلك بالنسبة للبعض يبدو كافيا للحكم، وهو حكم بات ونهائي، ولا يخضع للمراجعة، ألم ينطلق بالأصل من الحب أو الكراهية؟
هي ثقافة الرأي الواحد، إبنة غياب الحوار الحقيقي، وهي في الوقت ذاته ابنة “تدبير” الحياة الحزبية، وتطويب الأحزاب والتنظيمات السياسية لحفنة من القادة لا يغادرون مواقعهم إلا بإرادة الله.
المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى