طه حسين… إشكاليات مُحفِّزة
د. طيب تيزيني
تمر الذكرى السابعة والثلاثون لوفاة طه حسين (توفي في أكتوبر عام 1973)، وهو ما يزال يجسِّد مفكراً وأديباً ذا طابع إشكالي، يقدم أنموذجاً فاعلاً ومحفزاً حتى عصرنا، وإن حد بقوة خصوصاً على صعيد مناهج البحث الفكرية والثقافية والأيديولوجية والحضارية وغيرها. لقد سقط النظام العالمي القديم، نظام الحرب الباردة بين منظومتي الرأسمالية والاشتراكية، وراحت حروب ساخنة تندلع في المعمورة، لتُفضي إلى “نظام عالمي جديد” يقوم على قاعدتين اثنتين كبريين، هما التنميط والتسليع الكلي الشامل للكون. وبتعريف هذا المعنى (أي النظام)، إنه ذلك الذي يسعى إلى إعادة بناء العالم بصيغة ابتلاعه للطبيعة والبشر، وتحويلهم إلى سلع وكتل مالية في السوق الكونية الجديدة.
في سياق ذلك، برزت استحقاقات أكثر جذرية، منها خصوصاً التمكين لما راح يطرح نفسه بقوة تحت عناوين نهاية التاريخ والإنسان والهوية والوطن، وكذلك ما بعد الحداثة والأيديولوجيا والثقافة، وكل ذلك في سبيل الدخول في السوق المذكورة. وفي حينه، كان طه حسين يمارس نشاطاً مكثفاً ومتنوعاً في سبيل التأسيس لثقافة جديدة في مصر، مِمّا جعله يدخل سجالات وحوارات حارة وحادة مع فريق متنام من المصريين والعرب والمستشرقين. ويلاحظ أن الرجل كان حريصاً أن يتلقّف الموقف في أعلى حلقاته، نعني الموقف من الحضارة والتقدم بأنساقه المختلفة، العلمية والتقنية والثقافية والسوسيوسياسية…إلخ، وكذلك بالأنساق المتصلة بالدولة والسلطة والعِقد الاجتماعي…إلخ. ولم يكن طه حسين وحيداً في الساحة الثقافية، ولم يكن كذلك نكرة على الأصعدة الثلاثة المصرية والعربية والأوروبية الدولية.
لقد أشعلها حارة مع كل الأطراف، وكان ما اعتبره حاسماً في الحضارة الأوروبية معيار النظر والفعل في كفاحه الثقافي. وليس صائباً الاعتقاد بأن الدفاع عن طه حسين في كل ما فعله، أمر ذو مصداقية. ومن طرف آخر، ليس صحيحاً أن الخطوات التي قررها واتخذها نهجاً له، أتت هكذا بكثير أو بقليل من الاستسهال، لقد عبرت عن مخاض معقد ومركب، وكذلك مضطرب ومُفعم بالآفاق المتعددة، بما فيها المترددة والمتطرفة وأحياناً الضيقة النظر، بما جعله يقفز من مرحلة إلى أخرى ومن رأي إلى آخر.
لقد كتب طه حسين كماً واسعاً من الأبحاث والدراسات وغيرها، ولعل من أهم ما كتبه مجموعة صغيرة من الكتب، التي ما يزال الباحثون يشتغلون عليها، يبرز منها خصوصاً “مستقبل الثقافة في مصر” و”الأدب الجاهلي” و”قادة الفكر”. ويكفي أن نُظهر ما أثاره في الكتاب الأول من ردود فعل عنيفة تتعلق بآرائه حول مصر وأصولها ومستقبلها، خصوصاً على الصعيد الثقافي. فلقد كان -خصوصاً في المرحلة الأولى من حياته الثقافية- قد تأثر بقوة بالحضارة الأوروبية، والفرنسية من ضمنها، بكيفية مخصصة. ولعله حين قارن بين هذه الأخيرة وبين الحضارة المصرية القديمة (الفرعونية)، وصل إلى أن مصر لا يمكن أن تكون الوريثة الشرعية لأوروبا أو أحد امتداداتها. وهذا ما أوصله إلى الاعتقاد بأن مصر “قطعة من أوروبا”، مِمّا يوجب عليها العيش على نحو ما تعيش في قلب التقدم والحضارة. وقد جاء ذلك ربما في سياق إضعاف الحضور العربي، وذلك ما عقَّد الموقف، بحيث ظهر ذلك في مرحلة كان الصراع فيها بين مصر والاستعمار البريطاني والأميركي على أشده. لكن طه حسين عمل لاحقاً على ضبط رؤيته الحضارية وموقفه من الآخر عموماً. ونحن نرى في ذلك التحول في حياة طه حسين حالة نموٍ طبيعي، وإن بصيغة مُربكة.
الاتحاد