الاختناق بالسلاح!
ميشيل كيلو
يقيس العقل العربي السائد القوة بالسلاح. بقدر ما تملك دولة من سلاح بقدر ما تكون قوية، فإن لم يكن لديها سلاح تستمد القوة منه، اعتبرت ضعيفة لا حول لها ولا طول، تغري خصومها بالاعتداء عليها.
في غير العقل العربي، تعد القوة العسكرية محصلة عوامل لا تقوم على السلاح وحده ولا تمت إليه بصلة حصرية، كالاقتصاد والتماسك الاجتماعي والتقدم الثقافي والتنوع السياسي والتفاعل الصحيح بين المجتمع والدولة، والتقدم العلمي والتقني، والمشاركة السياسية، والحريات الفردية والشخصية… الخ. في هذا الفهم، بقدر ما تكون هذه العوامل متقدمة ومتكاملة، بقدر ما تكون الدولة قوية، حتى إن كانت تفتقر إلى جيش كبير العدد ومزود بجبال من السلاح. يقول التاريخ الحديث: إن الدولة العثمانية ظلت متفوقة عسكريا على الدول الغربية حتى نهاية القرن السادس عشر، لكن هذه تفوقت عليها، خلال هذه الحقبة، في التعليم والرعاية الصحية والبحث العلمي والتقنية والاقتصاد والعدالة والمساواة والحريات، فكانت النتيجة هزيمة التفوق العسكري أمام التفوق المدني: السياسي والمجتمعي والاقتصادي والثقافي، وهزيمة الجندي أمام المواطن، والضابط أمام المهندس والعالم، والعبيد أمام الأحرار، واقتصاد السلطان وبطانته أمام اقتصاد الرأسمالي وعماله، والعقل على النقل، والتنوع على الأحادية… الخ.
واليوم، يكاد وطننا العربي يختنق بالسلاح دون أن يكون قويا، سواء على الصعيد العسكري أم على صعيد العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتقنية، التي صنعت عصرنا الحديث، وتقدم المجتمعات، الذي يعتبر أرضية يستحيل في غيابها امتلاك قوة عسكرية ضاربة، تستطيع التدخل بفاعلية ساعة تواجه بلادها خطرا ما. يفسر هذا لماذا أدى افتقارنا إلى عوامل التقدم إلى بقائنا ضعفاء عسكريا، رغم ما اشتريناه وخزناه من سلاح خلال ثلاثة أرباع قرن من الصراع مع العدو الإسرائيلي، بينما جرد الحلفاء ألمانيا من السلاح بصورة شاملة، وحلوا جيشها إلى آخر جندي، ولاحقوا كبار جنرالاته وقادته، واحتلوا أراضيها، بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، غير أن تقدم مجتمعها مكنها خلال نيف وعشرة أعوام ( 1928-1939) من بناء جيش أقوى بكثير من جيش الحرب العالمية الأولى، خاض حربا كونية ضد قوى العالم الرئيسية استمرت نيفا وخمسة أعوام، اكتسح خلالها معظم أوروبا وأقساما واسعة من روسيا (وصل إلى مسافة 19 كيلومترا من موسكو) وشمال أفريقيا ومعظم منطقة القوقاز.
بقدر ما تكدس الدول العربية من سلاح، بقدر ما يتعاظم عجزها عن الدفاع عن نفسها، وتطول الفترة اللازمة لتمكينها من خوض حرب. ومن يرسم خطا بيانيا لحروب العرب ضد إسرائيل، سيجد أنهم قاتلوا في الحرب الأولى، حرب عام 1948، حوالي عام، ثم قاتلوا خمسة أيام في حرب 1967، هي الفترة التي استغرقتها عملية تدمير جيوشهم، التي اختنقت بكميات من السلاح لم تستخدمها، ثم عشرة أيام في حرب تشرين، قبل أن تقلع منذ ذلك التاريخ عن خوض أي حرب، وتفقد الجرأة اللازمة للنظر بامتعاض إلى العدو، بينما قاتل حزب الله، بإمكانات أقل بكثير من إمكاناتها، طيلة أشهر وسنوات، وترك جراحا دامية في سمعة وجسد جيش إسرائيل، الذي هزمها مرات متتابعة!.
تقول الإحصاءات إن العرب ينفقون سنويا عشرات مليارات الدولارات على السلاح، الذي يشترونه من كل مكان ومصدر. ويقول الخبراء إن تأخر العرب يجعل استيعابهم للسلاح الحديث أمرا متزايد الصعوبة، إن لم يكن متعذرا، الأمر الذي يضمن تفوق عدوهم عليهم بأسلحة تماثل، معظم الأحيان، أسلحتهم. أما السبب في ذلك، فيعود إلى تقدمه عليهم في المجالات المتصلة بالتطور العام للمجتمع والاقتصاد والدولة والثقافة… الخ. عندما يتطلب تدريب الجندي والضابط العربي على السلاح الحديث أربعة أو خمسة أعوام، ويتقن الجندي العدو استخدام السلاح نفسه في عام أو عامين، فهذا يعني أن العربي يكون محروما من سلاحه الحديث في أية حرب تنشب خلال الأعوام الثلاثة الفاصلة بين فترتي التدريب، وأن العدو يستخدم ضده سلاحا لديه ما يماثله، لكنه عاجز عن استعماله، فكأنه لا يمتلكه!.
تطرح هذه المسألة المتعلقة بالسلاح أسئلة مهمة تتصل بغيره، أكثرها إلحاحا السؤال التالي:
هل الاختناق بالسلاح في حالتنا العربية مصدر قوة أم ضعف؟. سأسوق مثالا تبسيطيا يشرح هذا السؤال. إذا كان عندنا مواطن ضعيف البنية، هل من الأفضل أن نعطيه سكينا تتيح له قوته الجسدية استعماله بشيء من القدرة والمهارة، أم من الأحسن إعطاؤه رشاشا ثقيلا لا يستطيع حمله واستخدامه. بأي من هذين السلاحين يكون جندينا أفضل تسليحا وأكثر قوة؟. إن وضع مجتمعنا العربي، الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي، وحالة مواطننا المقموع والخائف، المفتقر إلى أي حد أدنى مقبول من التعليم والخدمات الصحية والمعارف التقنية والعلم، والمحروم بصورة تكاد تكون تامة من حرياته وحقوقه، وإن أوضاع جامعاتنا المزرية، والطابع السلطوي لنظمنا، وانفصال التنمية عن مصالح الكتل الكبيرة من شعبنا… الخ تجعلنا نشبه الجندي العليل، الذي كلما كان سلاحه أكثر حداثة وتطورا، كان ضعفه أشد وعجزه عن القتال أوضح. هنا، في هذا الوضع العام، الذي لا ينتسب إلى السلاح والقوة المسلحة، تكمن النقطة التي تجعل سلاحنا ضعيفا وتجردنا من القوة الضرورية لمواجهة أقوياء زماننا. وهنا، يتفوق علينا عدو أقل تسليحا منا، بيننا وبينه فارق مذهل في الإمكانات والعدد والمساحة الجغرافية والموارد الطبيعية والخبرات التاريخية، لكن سيرنا على طريق السلطوية والاستبداد شل عناصر تفوقنا وعطلها، فلم تعد تنفعنا الأسلحة الكثيرة التي اشتريناها، وتمكن عدونا من تدميرها في كل حرب خاضها ضدنا، حتى ليصح القول: إن أسلحتنا كانت بالأحرى مجرد خردة، لذلك لم نحسن استعمالها ولم نتمكن من تحقيق أي انتصار بواسطتها، مع أنها لم تكن قليلة العدد كميا، ومتأخرة أو قديمة نوعيا.
أفضى اختناقنا بالسلاح خلال تاريخنا الحديث إلى اختناقنا بالهزائم. لو كنا من الذين يختنقون بالحرية والعدالة، لكان اختناق عدونا بسلاحه مؤكدا وقاتلا، ولعجز عن تحقيق أي انتصار علينا، أو عن البقاء في فلسطين.
يوم 15 أيار من عام 1970، التقى رؤساء تحرير أربع عشرة صحيفة أمريكية بوزير خارجية امريكا آنذاك هنري كيسنجر، للمطالبة بتكثيف معونات السلاح الأمريكية إلى إسرائيل. قال الوزير، بعد الاستماع إليهم: العرب أمة منشئة للحضارة لديها إمكانات يستحيل قهرها أو القضاء عليها بالسلاح، لذلك لا يكفي السلاح وحده لحماية إسرائيل، ولا يحميها شيء غير بقاء العرب متخلفين/متناحرين/متصارعين، وإخضاعهم لعمليات تفكيك وتفتيت لا تنتهي، تشل تفوقهم الشامل على إسرائيل، فيستطيع سلاحنا المقدم إليها إنزال هزائم متتابعة بجيوشهم ودولهم.
هنا، في هذه النقطة بالذات، نقطة التأخر والتناحر والتصارع، يكمن ضعف العرب، الذي لن تزيله أية كميات أو أنواع من الأسلحة، مهما كانت درجة تقدمها. إلى أن نتخلص من ضعفنا البنيوي، من استبداد نظمنا المعزز بتأخر مجتمعاتنا، سنكدس السلاح لأسباب داخلية ودولية متنوعة ومتشعبة، نعلم جميعنا أنه ليس بينها بالتأكيد والقطع الانتصار على العدو الخارجي: إسرائيليا كان أم غير إسرائيلي، ولن نقهر أحدا بسلاحنا غير شعوبنا: المغلوبة على أمرها والمقهورة إلى أبعد درجة يصعب تصورها أو تصديقها!.
‘ كاتب وسياسي من سورية
القدس العربي