عبد العزيز دوّن لائحةً بمآخذ الأسد على أداء الحريري
نقولا ناصيف
مع الإعلان يوم الأحد الماضي (3 تشرين الأول) عن صدور مذكرات توقيف غيابية سورية في حقّ شخصيات، بعضها وثيق الصلة برئيس الحكومة سعد الحريري، دخل الأخير في أزمة حقيقية مع سوريا حيال جدّية العلاقة التي كانت قد نشأت بينه وبين الرئيس بشّار الأسد منذ 19 كانون الأول 2009، وقادتهما إلى خمسة لقاءات مذ ذاك حتى 30 آب الماضي. كان العنوان العريض الدائم لها، وخصوصاً في بيروت، طيّ صفحة الماضي والثقة المتبادلة بين الرجلين والعلاقات الندّية من دولة إلى أخرى.
واقع الأمر أن كلاً من الأسد والحريري لم يطوِ تماماً صفحة الماضي، وإن أوحى بذلك، ولا يريد نسيانها أو تجاهلها على زغل. بل كلاهما تشبّث بكل ما رافق سنوات 2005 ـ 2008: الرئيس السوري بتصفية الحساب معها وقد اعتبر أنها استهدفت نظامه واستقراره، ورئيس الحكومة بالإصرار على بعض ما تبقى منها ـــــ وهو الأخطر على دمشق ـــــ وقد اعتبر المحكمة الدولية في قضيّة اغتيال والده الرئيس رفيق الحريري رمزها الحاد والقوي.
وهكذا اصطدما بتناقض موقفهما من المحكمة.
لكن وقائع مهمة كانت قد سبقت إصدار القضاء السوري مذكرات التوقيف الغيابية، تبعاً لما كشف عنه المدير العام السابق للأمن العام اللواء الركن جميل السيّد:
1 ـ زيارة مفاجئة لابن الملك السعودي الملك عبد الله ومستشاره الأمير عبد العزيز لدمشق ليل الأربعاء الماضي (29 أيلول)، ولقاؤه بعيد وصوله الرئيس السوري، ثم مغادرة عبد العزيز العاصمة السورية صباح اليوم التالي. في الاجتماع سمع الموفد الشخصي للملك، المكلّف منذ أكثر من سنة ملف لبنان في العلاقات السورية ـــــ السعودية وملف علاقة الحريري بالأسد، من الرئيس السوري جردة طويلة بمآخذه على أداء الحريري، سواء في علاقته بالأسد أو بسوريا في نطاق العلاقات اللبنانية ـــــ السورية. ولم يتردّد عبد العزيز، وهو يصغي إلى الأسد، في تدوين تلك المآخذ خطياً لحملها إلى والده.
أبرز ما أورده الرئيس السوري:
ـ لم ينفذ رئيس الحكومة اللبنانية أياً من التعهّدات التي قطعها له في دمشق خلال اجتماعاتهما الخمسة، بل تبيّن نقيضها في بيروت، وأخصّها استمرار الحملة على سوريا وعلى سلاح المقاومة، إلى ملفات أخرى أسهبا في تناولها، ومعظمها بمبادرة من الحريري. بما في ذلك الحديث الذي أدلى به الأخير إلى جريدة «الشرق الأوسط» (6 أيلول)، واعتذر فيه عن اتهام سوريا باغتيال والده واعترف بشهود الزور. ولا تعتقد دمشق أنها مدينة للحريري بهذا الموقف، وقد رحّب به الرئيس السوري فور صدوره، إلا أن رئيس الحكومة اتخذه بعد تدخّل مباشر للسعودية.
ـ عامل الأسد الحريري بأوسع مقدار من رحابة الصدر والتعاون والمؤازرة، فلم تُقابل بما يوازي ذلك. بل بات يلمس أن رئيس الحكومة ليس جدّياً في علاقته به، وأنه يسعى إلى كسب الوقت في تجاهل ما اتفقا عليه، رغم الثقة التي محضه إياها الرئيس السوري.
ـ إذا كان الحريري غير قادر فعلاً على تنفيذ ما تعهّده للرئيس السوري، فليفسح لسواه كي يضطلع بذلك. وكان الأسد يردّ على ما أدلى به عبد العزيز من ضرورة مساعدة الحريري على القيام بما تعهّد تنفيذه، نظراً إلى اصطدامه بعقبات.
قال الموقف السوري أيضاً إنه لم يعد مقتنعاً تماماً بحجّة كهذه: على الحريري تنفيذ تعهّداته، أو الإفساح لسواه إذا وجد نفسه محرجاً. والأبرز في ما يقتضي برئيس الحكومة اتخاذه موقف صريح من القرار الظني المتوقع صدوره عن المحكمة الدولية، وكذلك موقف من المحكمة نفسها التي اعتبرتها دمشق أخيراً مسيّسة، وحضّت على إلغائها.
2 ـ أحيط رئيس الجمهورية ميشال سليمان علماً بزيارة عبد العزيز لدمشق بعد 48 ساعة على حصولها، وأجرى الجمعة (أول تشرين الأول) مكالمة هاتفية مع نظيره السوري بغية إطلاعه على نتائج زيارته الأخيرة لنيويورك، والمحادثات التي كان قد أجراها هناك. وكان سليمان قد تلقى، قبل ساعات من ذلك، مخابرة من الحريري أعلمه فيها بتوجهه إلى الرياض ليل الخميس.
3 ـ تبلغ رئيس استخبارات المنطقة (دمشق) وريف دمشق اللواء رستم غزالة من القيادة السورية، قبل أكثر من أسبوعين، تعليمات قضت بالتوقف عن استقبال رئيس فرع المعلومات في المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي العقيد وسام الحسن، وهي قناة الاتصال الأمنية بين الحريري ودمشق في ما يتعلق بترتيبات توجه رئيس الحكومة في الغالب إليها لمقابلة الرئيس السوري. ورغم تجميد ذهاب الحسن إلى هناك، قبل أكثر من أسبوعين من ورود اسمه في مذكرات التوقيف الغيابية، فإن هذا الإجراء عبّر بدوره عن تقييد قنوات الحوار بين سوريا والحريري.
4 ـ كانت زيارة رئيس الحكومة المفاجئة للرياض بناءً على استدعاء من المملكة، للتشاور في حصيلة اجتماع عبد العزيز بالأسد، استناداً إلى اللائحة المكتوبة للمآخذ السورية عليه.
5 ـ رمى تزامن صدور مذكرات التوقيف الغيابية مع وجود الحريري في الرياض، إلى ممارسة دمشق ضغطاً مزدوجاً على رئيس الحكومة هناك لتذكيره بما لا يزال يتردّد في القيام به، ومساعدة الرياض على إقناعه بذلك إذا كانت المملكة جادة في استمرار تفاهمها معها حول الملف اللبناني وضمان استقرار هذا البلد بنزع فتائل الفتن والاضطرابات من حقوله.
ومع أن الساعات الأولى التي تلت الإعلان عن صدور مذكرات التوقيف الغيابية حفلت بردود فعل سلبية من نواب تيّار المستقبل وحلفائهم، قفزوا بها إلى انتقاد سوريا مباشرة، للمرة الأولى منذ مصالحة الحريري مع رئيسها، فإن الساعات المقبلة مرشّحة لتطورات متلاحقة، من شأنها إبراز مسار الأيام المقبلة، تبعاً لمعطيات بينها:
1 ـ توجّه الوزير غازي العريضي إلى دمشق اليوم لمقابلة معاون نائب رئيس الجمهورية اللواء محمد ناصيف، في مسعى لتجاوز خلاف سوريا مع رئيس الحكومة، والحاجة إلى إعطاء الحريري مزيداً من الوقت لإنضاج علاقته بالرئيس السوري. وتتزامن هذه الزيارة مع توجّه رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط إلى باريس.
2 ـ تأكيد سوريا جدّية تعاطيها مع ملف شهود الزور، وتبديد أي اعتقاد بعدم دعمها اللواء جميل السيّد، كما حزب الله، في خوض مواجهة مكشوفة على هذا الموضوع. وبمعزل عن فاعلية مذكرات التوقيف الغيابية ومسارها وإمكان تطبيقها، إلا أنها تفصح عن موقف سوري سلبي من رئيس الحكومة يتكشّف يوماً بعد آخر:
ـ فهي تستهدف أولاً من الشخصيات اللبنانية، فريقاً معاوناً للحريري، رافقه منذ عام 2005، وصنع خياراته وقراراته، أو شارك في صنعها. وبينهم مَن تحسب دمشق أنه لا يزال يناصبها العداء ويحرّض عليها وعلى حزب الله والمقاومة، رغم ذهاب رئيس الحكومة إليها.
ـ وتخيّر الحريري ثانياً بين هؤلاء والمضيّ في علاقة جديدة مع الرئيس السوري.
ـ وتعكس ثالثاً إصراراً على إنهاك رئيس الحكومة من كل صوب: بعد الحملة على القرار الظني، فتح أبواب حملات على شهود الزور وتمويل حصة لبنان في المحكمة الدولية، وأخيراً ـــــ حتى الآن على الأقل ـــــ مذكرات التوقيف الغيابية. وتظلّل الملفات هذه كلها المعركة الأم التي هي إسقاط المحكمة الدولية.
ـ استعجال دمشق، رابعاً، إنهاء الملفات الخمسة هذه دفعة واحدة، في محاولة تكشف بوضوح رغبتها في تصفية حسابها تماماً مع مرحلة 2005 ـ 2008 برمّتها، وتقويض كل ما نشأ منها سياسياً وأمنياً وقضائياً.
ـ تتمسّك سوريا خامساً بضرورة اتخاذ الحريري موقفاً سلبياً من القرار الاتهامي برفضه قبل صدوره، وترى أن لا حاجة بها ـــــ ولا حزب الله ـــــ إلى مثل هذا الموقف بعد صدور القرار الاتهامي، إذ يكون عندئذ عديم الجدوى.
الأخبار