حرب يقترب أوانها
ميشيل كيلو
لو أجرينا جردة سريعة لبؤر التوتر والصراع القائمة في عالمنا الراهن، لوجدنا أن القسم الأكبر منها يتركز في منطقتنا العربية وجوارها، أو هو على صلة معهما . ولو تأملنا السياسات الدولية منذ انهيار الاتحاد السوفييتي لوجدناها تتمحور في معظمها حول منطقتنا وجوارها، لأسباب تتعلق بمستقبل جميع الدول، كبيرها وصغيرها، قويها وضعيفها، منها موقع وطننا الاستراتيجي، الذي يمسك بالقسم الأكبر من نقاط الفصل والوصل الكونية، وما تختزنه أرضه من ثروات طبيعية ومعدنية كالنفط واليورانيوم والحديد والذهب، ويمتلكه من مياه وأرض زراعية وقوى بشرية، وفوائض مالية ضرورية لحل مشكلات الاقتصاد العالمي، وتنمية التجارة الدولية واستكمال الثورة العلمية/ التقنية ودفعها قدما إلى الأمام .
ولعله من اللافت أن النظام العالمي الجديد، الذي أسموه نظام القطب الأوحد، لم يقم في أي مكان من العالم إلا عندنا، وأنه سارع، بمجرد أن اختفى السوفييت، إلى اقتحام مجالينا الوطني والقومي، وحذف بعض توازناتهما التقليدية، التي تأسست مع اتفاق سايكس بيكو إبان الحرب العالمية الأولى، وبعض دولهما، ورفع أو خفض مكانة وقوة ودور غيرها، بينما دفع بجيوشه إلى داخل بلدان عربية وطوق غيرها بقوات بحرية وجوية متفوقة، وأعلن على لسان جورج بوش الأب رغبته في تطهير المنطقة من خصوم وأعداء أمريكا، وعزمه على منع دخول أية قوة أخرى إليها: منافسة كانت أم شريكة، وكذلك منع ظهور أية قوة إقليمية يمكن أن تبلبل خططه وسياساته .
لا عجب أن حدة النزاعات في بقية مناطق العالم خبت أو تراجعت بالتدريج، أو بدلت أشكالها ومضامينها، بينما تفاقمت النزاعات في منطقتنا وجوارها إلى درجة غير مسبوقة، وبدا وكأن الحرب الباردة التي انتهت في كل مكان، قد انتقلت إلينا في شكل حرب شديدة السخونة، زادتها استعاراً المطامع والمنافسات الدولية والإقليمية والمحلية، ومراكز القوة والعدوان القائمة على أطرافها وفي مراكزها، حتى صار السؤال الذي يتردد يوميا على ألسنتنا هو: متى ستنشب الحرب؟ وليس: هل ستنشب؟
إنه سؤال تسوغه وقائع كثيرة هذا بعضها:
كثرة بؤر التوتر والصراع والعنف القائم أو المحتمل، المبثوثة في كل مكان من وطننا: من الصومال إلى العراق، ومن موريتانيا إلى لبنان . وكثرة ما هو موزع ومخزن من سلاح في أيدي الخواص والدول، وكثرة المشكلات التي تؤلب المتنازعين بعضهم ضد بعض وتجعل خلافاتهم عصية على الحل، خاصة بعد أن حمّلت بمضامين مذهبية أضيفت إلى ما كان قائماً من مشكلات مزمنة، تفاقمت بدورها وتحولت إلى ألغام يمكن أن تنفجر في أي وقت، بينما زج بالتاريخ والجغرافيا في الصراع، وحلت محل المشتركات خنادق ومتاريس فاصلة تقدم التغطية الضرورية لمذابح مروعة، لا نهاية ولا حدود لها، يمكنهم القيام بها متى أرادوا، أو إذا ما تلقوا أوامر بتنظيمها، ضد أي مختلف .
كثرة الجهات والدول المتصارعة، وتنوع وتعدد موضوعات صراعها . وهي جهات ودول متناقضة السياسات متنازعة المصالح، يستغل الإقليمي منها ضعف العرب وافتقارهم إلى دولة أو محور دول يلتفون حولهما، ويتبادلون بالتنسيق معهما أو تحت إشرافهما حماية بعضهم البعض وحفظ حقوقهم . ضعف العرب، بعد أن عجزوا عن إجبار “إسرائيل” على الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، واحتل العراق، وتفتت ما كان قائماً من علاقات عربية، وتراجع دور الجامعة العربية، وتحالفت معظم دولنا مع فصائل وزمر تنشط ضد دول أخرى، وبرزت أسس للاختلاف بين العرب لم تكن معروفة أو مهمة من قبل، ما أتاح للخارج فسحة تدخل واسعة في شؤونهم، أقنعته أن بوسعه تعميق هوة الخلافات والصراعات العربية، والاستيلاء، في نهاية المطاف، على قرار العرب وإرادتهم، وإدخال المنطقة في متاهة لا يعرف أحد دروبها، ولا يعلم إلى أين تقود، وإن كان ثمة هناك اقتناع عام بأن السير فيها سيكون وخيم العواقب بالنسبة إلى الجميع .
كثرة الجهات والقوى الدولية التي تتنافس وتتصارع على منطقتنا، ودخولها مؤخراً إلى مجال من العلاقات كان خارج الصراع خلال العقدين الماضيين، ورغبة بعضها في استغلال ضعف أمريكا نتيجة حربي العراق وأفغانستان، واندفاعها الصريح إلى حرب باردة جديدة فيها، تقف كل قوة منها على متراس، محاولة استغلال انقسام العرب والإفادة من وضعهم الراهن، مما يترجم نفسه إلى صراعات محتدمة بينها قد تنقلب في أية لحظة إلى حرب ساخنة، لا تبقي ولا تذر .
في هذا الوضع المعقد والشديد الخطورة، تبرز سمات خاصة ستقرر وقوع الحرب أو استمرار السلام، منها:
تفاعل العلاقات المحلية مع الإقليمية والدولية بطريقة تجعل من المحال بقاء أية حرب محدودة أو مقتصرة على دولة بعينها . اليوم، تتداخل العوامل المحلية والإقليمية والدولية إلى الحد الذي يلغي الحدود بينها، ويجعل من الصعب التحكم بأية أزمة تنشب في أي مجال أو مكان . وبالنظر إلى كثرة السلاح وسعة انتشاره وكثرة حملته وضعف السيطرة عليهم، فإن بوسع أية قوة محلية إطلاق رصاصة الحرب الأولى، التي يمكن أن تنقلب حتماً إلى حرب شاملة ستطاول المجالات العربية والإقليمية وربما الدولية، على حد قول رئيس إيران أحمدي نجاد .
لم يعد نشوب الحرب متوقفاً على أسباب داخلية ، وقد يكون لأسباب خارجية: إقليمية أو دولية، كأن ترى إيران أو أمريكا و”إسرائيل”، على سبيل المثال لا الحصر، بدء الحرب من لبنان أو غيره، على أن تمتد فيما بعد إلى مناطق أخرى، قريبة وبعيدة . من هنا، لا يوجد اليوم معيار يصلح لمعرفة حقيقة ما يجري، وقياس صحة الوقائع والمدى الذي بلغه تأزمها . يعني هذا أن الحرب قد تكون مستبعدة، وقد تفاجئنا، بالمقابل، في أية لحظة .
لن تكون الحرب القادمة خاطفة أو سريعة أو محدودة، بل ستكون حرباً ضارية لن توفر بشراً أو حجراً . إن كثرة السلاح وحجم الأحقاد وطابعها، وتعقيد وتشابك صراعات المنطقة يجعل حلها صعباً إلى أبعد حد بوسائل السياسة والدبلوماسية . أما التحديات المصيرية التي تواجه الأطراف المتصارعة، فهي تتكفل بجعل الحرب عامة/ شاملة، يصعب حصرها في منطقة ضيقة أو إبقاؤها مقيدة بشرياً وجغرافياً . ولعل خير تعبير عما سيقع جملة لرئيس أركان جيش العدو وردت في خطاب ألقاه قبل قرابة خمسة أعوام، تقول: “يجب أن نحول جيشنا إلى جهة تحسن القتل، لا ترحم أحداً، وتقتل كل من تقع عينها عليه بدم بارد” .
تنضبط المنطقة الآن بالخوف من تحول أية حرب محدودة إلى حرب إقليمية ودولية واسعة، وبالرعب من حجم الدمار الذي سيلحق بجميع أطرافها . لكن الخوف لا يضمن سلاماً، بل قد يكون السبب المباشر لانهيار أعصاب حملة السلاح وقدراتهم العقلية، ولانطلاق رصاصة الهلاك الأولى .
حفظ الله مواطنينا وأمتنا وبلداننا .