صفحات العالم

بن لادن «المغيث» يستيقظ وبن لادن الارهابي ينام

حازم الأمين
في باكستان 20 مليون متضرر من الفيضانات التي شهدتها تلك البلاد خلال فصل الصيف المنصرم. 20 مليوناً بين مشرد ومُهدد بالتشرد ومن خسر افراداً من عائلته او مدرسة لأولاده او متجراً او منزلاً، فيما المناطق المتضررة من الفياضانات تمتد على أكثر من ألفي كيلومتر. وعلى رغم كل ذلك، انحسرت أخبار الكارثة فور توقف الأمطار. وما يصلنا منها اليوم فقط ما هو مرتبط بانعكاساتها على الوضع الأمني في ذلك البلد. فقبل يومين رد الجيش الباكستاني على تقرير أميركي يتهمه بالتباطؤ في مكافحة الإرهابيين والمتمردين الإسلاميين في منطقة القبائل في شمال وزيرستان، بأنه منشغل باستيعاب نتائج الكارثة البيئية. أما الخبر الأبرز على هذا الصعيد فكان تخصيص اسامة بن لادن رسالتين متتاليتين للحديث عن فيضانات باكستان، وطلبه من «المسلمين» نجدة اخوانهم هناك.
رسالتا بن لادن جاءتا في غير سياق رسائله وحملتا قدراً من الجدة في التعاطي مع مسألة لم يُعهد به التعاطي فيها. فقد ضمن رسالته الثانية خطة عمل متكاملة لعملية الإغاثة. خطة عمل من خارج الأجندة «الجهادية» ويفترض تطبيقها تعاوناً بين انظمة يحاربها الرجل وبين عائلات تجارية وهيئات اغاثية يذكرنا اتيان بن لادن على ذكرها بالمرحلة «الإغاثية» من حياة الرجل، تلك المرحلة التي شهدت «مهادنته» وتعاونه مع الأنظمة والسلطات في اكثر من بلد. ولولا الوقائع الدامية التي ترافقت مع بث الرسالة، وسبقتها وأعقبتها، من نوع استهداف قوافل حلف الناتو في باكستان، وتفجيرات اليمن، وما جرى تداوله لجهة محاولات لـ «القاعدة» في اوروبا، لقلنا اننا حيال تحول في خطاب بن لادن وحنين الى مرحلة كان فيها صبيّ النظام وربيبه.
الرسالتان كتبتا في سياق غير صدامي على الإطلاق، وكشفتا عن حقيقة ان للرجل في مخبئه على الحدود الأفغانية الباكستانية مزاجاً لم تتح له الظروف الكشف عنه في محطات سابقة. الموت كما بدا في رسالتيه ليس برداً وسلاماً، ولا عقاباً وواجباً، انه ما يجب الحد منه، ويجب على المسلمين التعاضد لإنقاذ اخوانهم من تهديده لهم. الحيرة التي يبعثها هذا الكلام مردها الى عدم انسجام الدعوة الى اغاثة «مسلمين» بسبب اقتراب الموت منهم، مع الكثير من اركان البنية الدعوية لـ «القاعدة» التي لم يسبق ان صورت الموت بصفته قدراً سلبياً، لا بل انها لم تبخل في جعله قدراً غير مدان حتى عندما تُصيب به من لا تعتقدهم أعداءها، ومن بينهم مسلمون أتاحت فتاوى «التترس» قتلهم من غير ذنب ارتكبوه.
ثم ان رسالة بن لادن وإن حملت «عتباً» على «دول المسلمين» لتباطؤها في اغاثة متشردي باكستان، الا ان العتب جاء في سياق الدعوة الى الإسراع في الإغاثة، مع ما يعني ذلك من اعطاء «الأمان» لقوافل المساعدات أياً كانت هويتها في حال وصلت الى المناطق المنكوبة التي يسهل فيها على «القاعدة» منح الأمان وحجبه.
وفي احدى رسالتي بن لادن جانب بيئي، وإلماح الى ضرورة اقامة توازن بين عمليات التحديث والتمدين وبين الاستثمار في الزراعة بصفتها خياراً ضرورياً لموازنة الآثار الناجمة عن التغير المناخي. فالرجل لم ينخرط في عملية ادانة التحديث، وتحميله مسؤولية الكوارث الطبيعية التي لاحت في السنتين الفائتتين، على رغم ان ذلك كان فرصة لتجريم الغرب وأميركا على ما دأب اليسار اليبئي الجديد في أكثر من مكان في العالم على فعله. لقد دعا، في المقابل، الى استيعاب نتائجه عبر تعزيز «الاستثمارات الطويلة المدى»، على ما وصفها، في المجال الزراعي.
والأرجح ان صدور بن لادن عن عائلة تجارية وعلاقات استثمارية هو الذي كمن وراء تجنبه ادانة التحديث بصفته نموذجاً وخياراً تقنياً بحتاً غير متصل بما يحمله من تغيرات اجتماعية، فتخفف، بالتالي، من الموروث الثقافي والديني. وبهذا المعنى يصح القول بأن تنظيم «القاعدة» احد ابناء ما اصطلح على تسميته بـ «النظام العالمي الجديد»، اذ ان مجال الصدام بينه وبين هذا النظام انحسر في الأصعدة غير الجوهرية. في حين أقام التنظيم الإرهابي عملية تماه كبرى مع مختلف أوجه العولمة التقنية والثقافية والاجتماعية، واستعان في قطعه مع ثقافاتها واستهدافه مجتمعاتها بأدوات من انتاج هذه الثقافات والمجتمعات.
لكن رسالتي بن لادن الأخيرتين شكلتا مؤشراً آخر في سياق الصراع بين «القاعدة» والتحالف الغربي، فهو خاطب عبرهما حساسية محلية باكستانية تضخم فيها شعور بالمرارة من جراء شعورها بعدم اغاثتها. اذ وبينما كانت المياه تطيح آلاف البشر والمنازل والمنشآت كان الرئيس الباكستاني آصف زرداري في بريطانيا، وهو لم يشعر بضرورة قطعه رحلته والعودة الى بلاده لمواجهة الكارثة. ومثل ذلك صورة حقيقية عن طريقة تعاطي الحكومة الباكستانية مع نكبة من هذا النوع، وهو ما رفع على نحو قياسي مستوى التعاطف مع الجماعات المسلحة على انواعها في ذلك البلد. ومثل ذلك على ما يبدو فرصة نادرة لأسامة بن لادن في عملية استعادة خطابه «الإغاثي»، وفي لحظة حنين لاستئناف «الجهاد» من البوابة الإغاثية.
اما الدلالة الثانية التي حملها الخطاب الإغاثي في «بعده البيئي» فيتمثل في أن انشغالات الرحل في مخبئه محدودة، لا بل ان الأميركيين يعتقدون انها مقتصرة على مجال التأمل. ويبدو ان هناك أكثر من مؤشر على صحة هذا الاعتقاد. فكثافة الغارات الأميركية على معاقل «القاعدة» في منطقة وزيرستان، وشبكة الرقابة الكثيفة على الاتصالات، جعلت من امكان تحرك بن لادن في تلك المنطقة أمراً شديد الصعوبة. فعلى سبيل المثال احتاج بن لادن لأكثر من شهر لكي يرسل شريطه المسجل الأخير الى وسائل الإعلام، وهو ما يُستدل عليه من فقرات منه تُظهر انه أعده في شهر رمضان الفائت.
وإذا كان النشاط الواسع الذي مارسته «القاعدة» في الأشهر الأخيرة قد تم بعيداً من قيادة الرجل ومن توجيهاته، فإن القول إن «القاعدة» لم تعد تنظيماً وإنما صارت اسلوب عمل غير مترابط، يصبح عندها دقيقاً، ويصبح القول ان بن لادن لم يعد أكثر من أيقونة لا قيمة عملية لها، قولاً لا مبالغة فيه.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى