الألم يحتاج إلى ثلاث حيوات ليشفى
*سامر أبو هوّاش
أنّي كوركدجيان.
قصيدة ضياء
تقولين: الألم…
“الألم الذي يحتاج إلى ثلاث حيوات ليشفى”
أبقى وحيداً أمام مرآة وحيدة،
مردداً اسمك
هامساً اسمك،
شاتماً اسمك،
حتى يسمع قلبي جيداً،
حتى لا يحاول أن يصحّح لي،
لاهثاً حياتي كلها،
لاعناً حياتك كلها،
باكياً عينيك،
فمك، ضحكتك،
نهديك،
نهارات روحك،
الطريقة التي تسمعين بها الموسيقى،
التي تتعطّرين بها،
التي تمسحين بها جسدك بالكريمات،
التي تحمّمين بها شعرك،
التي تكتبين بها على الكومبيوتر،
التي تستعدّين بها للذهاب إلى النوم
التي تلفظين بها اسمي
من دوني هذه المرة
ومن دون ترّهاتي أيضاً.
هل الحياة أجمل الآن… بلا ذاك الألم؟
“الألم الذي يحتاج إلى ثلاث حيوات ليشفى”
هل باتت أكثر روعة، طمأنينة، هدوءاً، أماناً…
بلا ذلك الرجل الذي بات له كرش
لا يحاول جاهداً التخلص منه،
الذي يدخّن مصنع سجائر كل ليلة،
ويشرب معمل بيرة كل ليلة،
مشتكياً بعد ذلك من شيء ما في صدره
أو قلبه
ومثرثراً رعبه من السرطان،
قبل أن يشخر محطة قطارات في السرير؟
على الأقل ارتحتِ الآن من ذلك كله
من التلفزيون الذي ظلّ يكبر عبر السنين
حتى ملأ الحائط،
ومن الكنبة القديمة الرثّة
التي مع ذلك أتشبّث بها،
من الأفلام التي عليك مشاهدتها
كأنك في معبد،
ومن حديثي الدائم عن الموت،
وصمتي الدائم عن الموت…
ما عدتِ مضطرة إلى احتمال كوابيسي قبل النوم
ولا إلى طرد شياطيني بعد النوم
إن لم يكن هذا
فعلى الأقل
لم تعودي مضطرة إلى تذكيري دوماً
برفع غطاء المرحاض
وإقفال ستارة المغطس
ولا إلى ضبط المنبّه
على ساعة حبّة منع الحمل،
ولا إلى ترك الفوط الصحية مرةً كل شهر
في مكان مرئي من الحمّام
على الأقل بات الآن في إمكانك تناول السباغيتي
واللازانيا والسوشي
وغيرها من الأطعمة التي حرمتك منها…
ولكن أخبريني
أنت التي لطالما وثقت بحدسك
حتى حين يكون خاطئاً،
هل ينبئك حدسك هذه الأيام كم أحببتك – أحبك؟
هل تدركين مدى/ عمق/ مسافة/ زمن/ فضاء/ احتمالات/ ألم ما أحببتك- أحبك؟
هل تشعرين أن ما بين يديّ الآن
ليس إلا حفنة هواء
تلفظ اسمك
واسمك أنت فحسب
هل تسمعين الكثير من الموسيقى المحزنة هذه الأيام؟
الجاز…
داليدا…
إيللا فيتزجيرالد…
إديث بياف ربما…
لكن قطعاً ليس فيروز…
هل تتذكرين رحلتنا الأخيرة…
الطريقة التي استوقفت فيها رجلاً لتسأليه عن الطريق إلى الفندق:
“بونجور مسيو”…
كأنك تتهمينه بجريمة ما…
والضحك الكثير الذي أعقب ذلك
(أليس هذا هو الحب
الكثير من الضحك
والقليل من الأسباب؟)
وذلك الضحك على السرير
وذلك القفز على السرير…
والنقاشات الطويلة في الجنس
والأحاديث الطويلة في الحب:
هل يمكن أن يحبّ رجل امرأتين في وقت واحد؟
لا أعرف، لا أظن ذلك.
هل يمكن أن تحب أنت امرأتين في وقت واحد؟
أعرف أنني أحببتك أنت مرتين… ثلاث مرات… مئة…
أنك كنت/ أنك أنت/ جميع عشيقاتي السرّيات…
الآن أظن أنني أعرف ذلك الألم…
ألم أنك لم تعشقي امرأة مثلك
حتى تعرفي ما الذي يعنيه
أن يعشق رجل مثلي امرأة مثلك
ولا يعود قادراً/ راغباً/ باحثاً
عن سواها من نساء.
والآن هذا الألم
“الألم الذي يحتاج إلى ثلاث حيوات ليشفى”…
استمعي إذن إلى الأغنيات الفرنسية
أقفلي هاتفك…
تخلّصي من علبة ياسمين
ضعي جميع الصور في الأدراج،
اشربي كأساً من النبيذ…
اصرخي ألمك أمام الشاشة…
خذي نصف حبّة منوّم
اذهبي إلى النوم…
ولا تنسي إقفال الستارة
عليَّ.
***
عباس بيضون لم يمت
أربعة حمّالين يملأون الشاحنة بصناديق الكتب المربّعة. قرب الدويّ، أقف مع سيجارة وهواء يشتعل. لا نواة لهذا الحريق. يدي، قبل قليل، تتحسّس جلد الطاولة. وفي المنام اليد نفسها كانت تفجّر قنبلة هيدروجينية. رويت ذلك للجميع ولم يتأثّر أحد. لم أرو ذلك لأحد. ولم أتأثر أنا أيضاً. كانت غيوم تشبه السحب. بيضاء مزبدة، وأمطرت فقاقيع صفراء على الكون. فلنفرّ إذن إلى الجبال، إلى القرى العالية، صحتُ بزوجتي. نستطيع أن نأخذ أثاث البيت معنا. كل ما علينا أن نعيد جمعه في شجرة واحدة. على السين أشباه عراة يستحمّون بالشمس. على أوتوستراد مصفّح عامل أفغاني ممدّد بلا دم. هل تصدّقين هذه اللافتة: طريق الشاحنات! مساء، صباحاً، بعد الظهر، أحاول ترجمة قصائد شاعر أميركي يتيم. “رجل في هواء مستعمل يقعد ويفكر في الحيوانات”، يا له من عنوان! يا الله، ذات يوم ستسحقني إحدى هذه الشاحنات. لافتة ضخمة في المركز التجاري تدعو الى مساعدة الشعب الباكستاني. من أين يأتون بهذه الوجوه الفوتوغرافية الرائعة؟ متى حصل هذا الفيضان؟ مارست الحب مع زوجتي. مارست الحب مع زوجتي. مارست الحب مع زوجتي وأنا أنظر إلى زوجتي. أفكّر كثيراً في العتمة هذه الأيام. ماذا لو كانت العتمة مسكونة بالأشجار. أو العكس: الأشجار مسكونة بالعتمة. لا شغل لي في هذا القيظ. أبحث عبثاً عن وودي ألن في حديقة غاودي. نبحث عن ظلّ شجرة لالتقاط الصور. أمارس الحب مع الأشجار المظلمة. مع الموتى. لا يصلون ولا أصل. رجل عار يلتفّ على نفسه على شاطئ برشلونة. سيارة صدمت عباس بيضون على “الرينغ”. سيموت. سيموت. سيموت. لا أريد القيام بهذه الزيارة أيتها الصديقة. سيموت. يدي ميتة على الطاولة. عليَّ اعتياد ركوب الحافلات في المدن الغريبة. مجرد حافلة. مجرد حافلة. أقول للمضيفة الإسبانية: البرتقالة. هل سمعت أغنية البرتقالة؟ تجيبني بالإسبانية شيئاً ما وتبتسم. ابنتي تضحك: البرتقالة! وتضحك. ترارارام. لماذا الـ”غيرنيكا” صغيرة إلى هذا الحدّ؟ لماذا بركة “المعرّف” في قصر الحمراء، مجرد بركة، صغيرة أيضاً، وآسنة! أقف متأملاً الطحالب. يفوتني الحنين ولا أعود قادراً على اللحاق به. تباً للطحالب. صندوق يرتطم بقوة أكبر. ينظر إليَّ أحد الحمّالين: ما الذي تفعله هنا؟ أتأمل الطحالب. فقط أرجو ألا يكون “فقط لو يدك؟” في الداخل؟ لا تذهب إلى الجوار المخيف يا… أين أنت؟ مصفّح – أبوظبي. الريغوستو، الحمراء. أحاول أن أصل يدي بالعالم عبر هذه الطاولة البائسة. أتحسّس جلدها كأنه قماشة فاخرة. لا شيء يحدث. ما شغلي هنا؟ هناك في “مدينة أين؟”. بائع فلسطيني يستمع إلى جورج وسوف ويحنّ إلى غزّة: هنا في غرناطة اكتشفت أن على الرجل العاقل ألا يتزوج من غير الفلسطينيات. برافو إذاً. سائق السيارة يتأمل الأفغاني الممدّد كأنه يحاول أن يتنفّس بدلاً منه. يدخّن، منتظراً وصول الشرطة. أدخّن، منتظراً وصول الثلج. “إنه رمل مشبوه تحت شمس حقيقية”، يجب أن أقلّل من استهلاكي للجعة. يجب أن أترجم جون أشبري. يجب أن أنام ساعات أكثر. يجب أن أشتري فرشاة أسنان تعمل على البطاريات. الجميع حولي يحملون الكاميرات الرقمية الصغيرة ويجلدون بيكاسو. أيّ شغل لي في هذا القيظ؟ عباس بيضون بدأ يتعافى، تقول نجوى بابتسامة بسعة مقهى. سيعود إلى البيت عما قريب، تقول عناية. لكنهم قالوا إنه كسر ظهره. ترّهات، تقول رشا. قرأت له مقالاً اليوم يقول أحمد، إنه يحتفي بالغيبوبة. كتب إنها كانت أسعد أوقات حياته. ونضحك، ثم نختلف على تسمية “الشيري” في الحانة الإسبانية. ولكن ماذا يجري في بيروت؟ المعتاد. المعتاد. عما قريب حفلة القتل. النادل الضخم في الريغوستو ينظر إلى صدر زوجتي ويتنهّد. جميل، أليس كذلك؟ أومئ له. أحضر لي كأساً من الهراء لو سمحت. الفضية أم الذهبية؟ لا يهمّ. إيليا سليمان لا يزال عالقاً في ردهة المستشفى. تاركوفسكي يذهب إلى الغابة. تاركوفسكي يموت في باريس. 1986. في قلبي فقط: أرجوك يا كاظم لا تقترح الذهاب إلى مقبرة العظماء. على لافتة صغيرة: هنا عاش فان غوغ. أريد حقاً أن أبالي. لكن، تباً للطحالب. كاد ينتهي الحمّالون من ملء الشاحنة. أحاول أن أسقط سيجارتي في الحاوية كلاعب كرة سلة محترف. تسقط أرضاً كالمعتاد. يا شباب، هل يمكننا العثور على “بطاقة لشخصين” في أحد هذه الصناديق؟
***
شيء ما يقترب
أنفاسه على رقبتك
ومع ذلك حين تنظر إلى الخلف
لا ترى سوى العتمة
أو الكثير من الضوء
الذي يشبه العتمة
من قال إن ثمة شجرة في نهاية الطريق؟
من قال إن حبل الغسيل
يجب أن ينتهي بنهر؟
***
هواء
هذا الهواء هو يدا أبي
تمسّدان شعري
هذا الضباب
هو نظرته
على ليل حياتي
هذه السحابة
فكرته عن النهار
الباقي
في ظلّ العتبة.
***
الملائكة المحتشدون
عشرون ملاكاً على الأقل
يحتشدون، ببزاتهم الواقية، حول رأسي
أحدهم يمسك الشفرة
بيد ترتجف
وعليه أن يقرر الآن
ما إذا كان عليه أن يقطع
الشريط الأحمر أم الأزرق
البقية يتعرقون
وعيونهم تلاحق عقرب الثواني في ساعاتهم:
4… 3… 2…
***
حيوانات المدن
ماذا تفعل حيوانات المدن وقت المطر:
هل يكوّنُ الحمامُ انطباعاً جديداً
عن أفاريز النوافذ؟
هل تمارسُ القطط المزيد من الحبّ
تحت السيارات؟
هل تكفّ الجرذان عن الثرثرة
وتستمعُ إلى “جاز” الميازيب؟
وحدها الكلاب الشاردة
لا تبدو متفاجئة
وهي تجوب الشوارع الليلية
مطرقة الرأس كالعادة.
***
الغرباء
“يقفون أمامي فجأة
حتى أحسبهم
قفزوا من عينيّ
يختفون فجأة
حتى أحسبهم
ذابوا في قلبي”،
هذا ما يرويه الغبار للأرصفة.
***
الدموع
في السماء التي نلفظ اسمها
في تقريظ شجرة سامقة كالجريمة
في عناق الأيدي وشجار الألسنة
في الشوكة التي نستعملها بدل الملعقة لتحريك الشاي
في الستارة التي نحمي بها الهواء من عيوننا
في لفظ العتبة
في القميص الذي نعلقه كسمكة على المشجب
في الجرو المنقوش على الحصيرة
في القلب المنقوش على الكوب
غيمة عملاقة تستوطن السقف
ولن تمطر عما قريب.
***
بلاغة حربية، تموز 1996
انظروا قلبي
ها هو الآن يحترق
ويسقط كلّ من فيه
بين قتيل وجريح ¶
ملحق النهار الثقافي