صبحي حديديصفحات ثقافية

ساركوزي وت. س. إليوت

null
صبحي حديدي
هذه أزمنة تشهد درجات أعلى فأعلى من الغزل، لكي لا يشير المرء إلى التناغم والتماهي، بين خطاب اليمين الفرنسي المتطرّف والعنصري والشوفيني، من جهة؛ واليمين الجمهوري، سواء التقليدي الذي يتغذى على ما تبقى من أطلال الديغولية، أو ‘المحافظ الجديد’ كما أشاعه ويشيعه الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، من جهة ثانية. وأجدني، إزاء الحال، أستعيد شخصية أدبية، وليست سياسية؛ وأنغلو ـ أمريكية، وليست فرنسية: الشاعر الشهير ت. س. إليوت، الحداثي المجدّد دون سواه، صاحب ‘الأرض اليباب’، أرفع قصائد القرن العشرين على الأرجح.
وبمعزل عن تصريحه الشهير، بأنه ملكي في السياسة وأنغلو ـ كاثوليكي في الدين وكلاسيكي في الأدب، لا يتردد معظم دارسي إليوت في الجزم بأنه كان رجعياً لأسباب أخرى جوهرية غير تلك التي يسردها التصريح ذاته. لقد جاهر بعدائه للأفكار الليبرالية، وعارض فلسفة التقدّم الاجتماعي، معتبراً أنها تنخر البنيان الكلاسيكي الناجز؛ كما تغنّى بأوروبا العصور الوسطى، وما شهدته من وحدة في اليقين، وتوافق في القيم الاجتماعية.
ومعنى السياسة انحصر عنده في الدفاع عن قوى الموروث، تلك التي تفصح عن نفسها في شكل سياسات راسخة الجذور، ولها اليد العليا في وقف ما يمارسه السياسيون والأدباء من عمليات نَخْر ليبرالية ـ رومانسية في جسم المجتمع، ولا يهمّ هنا أن تكون تلك القوى متهمة من غالبية أبناء الأمّة بالسَلَفية والسكون. وبعد أربع سنوات من تولّيه مهامّ تحرير فصلية ‘كريتريون’، حدّد إليوت هويّة المجلة بأنها ‘الإنحياز إلى الكلاسيكية’ كمفهوم أرقى وأوضح من مفهوم ‘العقل’، وضرب عدداً من الأعمال كأمثلة معبّرة عن هذا الميل: ‘الديمقراطية والقيادة’ للأمريكي إرفنغ بابيت، و’تأملات في العنف’ للفرنسي جوليان بيندا، و’تأملات’ للبريطاني ت. ي. هِوْم. هذه المؤلفات تشترك بخاصّية واحدة هي وقوف مؤلفيها في صفّ الفكر المحض ضد المجتمع المنخور والرومانتيكي، الفاقد للمبدأ الضابط أو المعايير الموضوعية؛ وأنّ أفكارهم هي الممثلة الأمينة للحضارة الحقيقية، التي تتعرّض لخيانة مزرية من قِبل رومانتيكيي الأدب وليبراليي السياسة.
وفي عداد هذه المؤلفات أدرج إليوت كتاب ‘مستقبل الفكر’ للكاتب والمنظّر السياسي الفرنسي شارل ماري فوتيوس موراس (1886 ـ 1952)، وهنا الصلة الراهنة مع ساركوزي واليمين الفرنسي المعاصر. وكان إليوت قد سافر سنة إلى باريس سنة 1910، لدراسة الأدب الفرنسي في جامعة السوربون، فشهدت تلك الحقبة خضوعه لتأثيرات الشعراء لافورغ وفيرلين وبودلير والمدرسة الرمزية، إسوة باختلاطات الإيمان البوذي وسحر النصوص السنسكريتية والفلسفات الشرقية. بيد أنها، أيضاً، مرحلة التأثّر العميق بأفكار موراس، الذي كان له نفوذ فكري عميق على أوروبا بأسرها في مطلع القرن العشرين، واستبطنت نظريته في ‘القومية التكاملية’ جزءاً ليس باليسير من الأفكار الفاشية فيما بعد. وكان موراس سليل أسرة ملكية كاثوليكية، وبدأ حياته الفكرية بتأسيس ‘المدرسة الرومانية’ الداعية إلى الإنضباط الكلاسيكي والوضوح والقوّة، ضدّ الرمز الصبياني والغموض والعواطف الرومانتيكية. وكان مَلَكياً متزمتاً، أفرد صفحات مجلة ‘العمل الفرنسي’ لتأكيد أولوية الدولة، وسموّ فرنسا، وتفوّقها في العلاقة مع الأمم الأخرى.
ولقد أحيا هذا الملكي النزوعات المحافظة والرجعية، الضاربة بجذورها عميقاً في دخيلة إليوت، سواء لجهة إيمانه المطلق بالكنيسة والمَلَكية وكرهه لليبرالية و’الترّهات الديمقراطية’، أو ردّة فعله المزمنة إزاء الميول الرومانتيكية. وهكذ رأى إليوت في موراس، وجماعته من ‘أنصار الملك’، حركة فريدة يشرّع وجودها فكر فريد، رغم تحفظاته على الممارسات السياسية (ولكن ليس على السياسة). كما واصل الإعراب عن إعجابه بموراس الفيلسوف، وامتلاكه حسّ الشاعر المرهف، والذي يصوغ بنثر بديع جملة أفكار ثمينة وصائبة ضدّ الديمقراطية والليبرالية ومعتقدات ‘الدهماء’. ولم يكن ينقص إليوت، في تأرجحه بين الإعجاب بهذا المفكّر والحرج من سلوك غلاة أتباعه، سوى اللطمة القاسية التي وجهتها الكنيسة الكاثوليكية إلى موراس وجماعته، حين أصدر الفاتيكان سنة 1928 حكماً بإدانة ‘العمل الفرنسي’ وعدد من مؤلفات موراس، بسبب أن الحركة ‘تُخضع الدين للسياسة’.
ولقد كتب إليوت يقول، حزيناً دون ريب: ‘أعمال السيد موراس غير معروفة في إنكلترا. إنّ الغالبية العظمى من شاغلي المواقع التي تسمح بعرض الأدب الفرنسي هم من الليبراليين الذين ترعبهم كلمة ‘رجعية’، والذين لا يكنّون أيّ ودّ للكاثوليكية، أو من المحافظين غير المكترثين بالأدب الأجنبي وغير المتعاطفين مع الكاثوليكية في الوقت ذاته، أو من الاشتراكيين الذين لا يفيدهم السيد موراس في شيء على الإطلاق. أما حقيقة كونه من أهمّ نقّاد الأدب الذين يكتبون نثراً بديعاً لا يقلّ جمالاً عن نثر أيّ كاتب فرنسي، فهي أيضاً حقيقة لا دلالة لها في توطيد مكانته. بيد أنه إذا كان هناك من شيء، في هذا الجيل أو في سواه، يقينا شرّ الوقوع في أنغلو ـ فاشية عاطفية، فهو ذلك النظام من الأفكار الذي اكتسب الكثير من دراسة موراس. إنّ تأثير الرجل في إنكلترا لم يبدأ بعد’.
الأمر الذي لا يعني أنّ تأثيره في فرنسا قد اندثر أو اضمحلّ، بعد أن انتشر وهيمن، فها هو يعود… أشدّ جاذبية، كما يلوح!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى