المغنية السورية لينا شماميان في أسطوانتها «المجموعة»
البســـاطة الخادعـــة
هالة نهرا
كثرت محاولات «عصرنة» التراث الموسيقي العربي. تكاثرت كعشبٍ نما في الخرائب، وبات من الضروري جزّه، أو جزّ بعضه، على الأقلّ، لحراثة التربة التي أنتش فيها. لعلّ ذلك الميل الفنّي الجارف – الذي تحوّل شيئاً فشيئاً إلى ظاهرة – بدأ ينتشر بين الموسيقيين الشباب منذ أكثر من عقد. وقد أمسى، مؤخّراً، مادّة قابلة للذوبان في ما يُعرف بـ«البوب العربي». الأغاني الرائجة تثبت ذلك (في مصر ولبنان على وجه الخصوص). بعض الفيديو كليبات يثبت ذلك أيضاً. فمرونة التراث الشفهي وقابليّته للتعديل تمدّانه بقوّة جذب غير عادية، وتجعلانه، مرحليّاً، وربّما مستقبلاً، عرضة للتحريف وشتّى أنواع الانتهاكات. عددٌ لا يُستهان به من المحاولات الموسيقية المذكورة يصبّ في المستنقع الفنّي الاستهلاكي غير المنفصل عن الإعلام «السياحي» المرتسمة ملامحه في معظم البرامج المتلفزة والمسموعة. أمّا المحاولات الجادّة والنوعية، فقليلةٌ ومتماثلة أحياناً إذ يبدو بعضها منقولاً عن بعضه الآخر. ذلك أنّ المؤلّفين والمنتجين الجدد ينزعون إلى تقليد عواقب تجارب الدمج الأولى (أي ما نتج عنها وتلاها من تراكيب وتوليفات نموذجية)، ويوائمون، بهذا، بين الجاز أو اللاتيني والتراث العربي، مثلاً. قليلون هم مَن نجحوا في إيجاد صيغة مغايرة للمعمّم والمكرّس في هذا الميدان. وإذا قارَبَ البعض التراث بمنظار عصري مختلف، فإنّ مقاربته هذه تبقى أسيرة نخبويّتها وطابعها التجريبي. في ظلّ غياب الدراسات العلمية في التراث الموسيقي ومحاولات عصرنته، تصبح الذائقة الفردية بمثابة معيار معتمد للحُكم على أيّ تجربة أو اقتراح في هذا المجال، فإمّا أن يجتذبكَ العمل أو لا. وإمّا أن تتقبّله أو لا. تلك هي الحقيقة، شئنا أم أبينا! ولعلّ غالبية الكتابات المسمّاة «نقدية» عبارة عن انطباعات تقييمية تغلب عليها الميول والأهواء الشخصية.
لينا شاماميان
بهذا المعنى، يمكن القول إنّ المغنّية السورية لينا شاماميان استطاعت أن تشكّل حالةً خاصة مذ أطلقت باكورتها «هالأسمر اللون» عام 2006. والمعيار التقييمي لم يكن مرتكزاً، ههنا، على الذائقة الفردية فحسب، بل على مقوّمات صوتها، وسلاسة تجربتها المفتوحة على احتمالات كثيرة. أثارت انتباهنا منذ البداية، وحظيت بشبه إجماع نقدي، رغم عدم تخطّيها للمنجز في مضمار الدمج الموسيقي. اختلاف مشروعها عن السائد لم يتمظهر في التأليف الغنائي أو بالأحرى في الجُمَل اللحنية المؤدّاة، بل في النفَس التلحيني والتوزيعي. ولم يتبدَّ تمايزها في الغناء، بل في النفَس الغنائي. وحين نتحدّث عن الإشراف الموسيقي والتلحين والتوزيع، لا بدّ من التنويه بإمكانيّات عازف الساكسوفون والترومبيت السوري باسل رجوب الذي أسهم في صقل ألبومها الجديد «المجموعة» الصادر حديثاً عن «فوروورد ميوزك». لينا شاماميان مؤدّية من الطراز الأوّل. أعني أنّها متمكّنة من أدوات التعبير الغنائي، وقواعده، وتقنيّاته الاحترافية. انعطافها السائغ إلى نبض العصر وعصبه يبيّن مدى لدانة حبالها الصوتية، وقدرتها على التحكّم في نمطَين متباينَين. إذ إنّها تأخذ من التراثيّ جرعةً، ومن العصريّ جرعتَين. تُزاوج بين الغربي والعربي من دون ضجّة أو افتعال، لكنّ اتّجاهها الفطريّ يظهر بوضوح في الشرقي.
مؤدية
مؤدّيةٌ هي. مؤدّيةٌ وحسب، رغم سعيها إلى كتابة نصوص بعض أغانيها (أغنية «شآم» الرقم 10، مثلاً). تنفّذ شاماميان أفكاراً وامضة وخطوطاً ميلودية متطلّبة، علماً بأنّ صعوبة تلك التيمات تتأتّى عن بساطتها. فالبساطة الظاهرية خادعةٌ أم أنّ الموسيقى المعقّدة والتي تُظهر خلاف ما تخفيه هي التي تخدعنا بتشابكاتها، وغموضها، وإشكالاتها. أعمق ما يمكن أن يُكتب في الموسيقى، وأصعب ما يمكن أن يؤدّى – أكان عزفاً أم غناءً – هو البسيط والسهل ظاهرياً. وهذا ما دأبت على تقديمه لينا شاماميان مذ خطت خُطاها الغنائية الأولى. بل إنّ البسيط المكوَّن من عناصر متجانسة يفترش، عمليّاً، أرضية التراث، قبل احتمال تدثّره بالموسيقى المعاصرة، أو بأيّ نمطٍ موسيقي آخر. انطلاقاً من هنا، يمكن القول إنّ البساطة لدى شاماميان تتّخذ، في ألبومها الجديد، هيئتَين: الأولى تراثية بطبيعة الحال. أمّا الثانية، فأدائية صرفة، وغير منقطعة عن الشقّ التراثي في كيفية ترجمته صوتيّاً. وقبل الاستغراق قليلاً في تفاصيل الأسطوانة، لا بدّ من القول إنّ للتراث الموسيقي أكثر من وجه، وإنْ تداخلت وتكاملت أَوجُهه في مواضع متفرّقة أو محدّدة. الوجهان الأساسيّان للتراث الموسيقي، والمختلفان بعض الشيء هما: تراث الموسيقى الشعبية Folk، وتراث الموسيقى الفنّية التقليدية. التراث الشعبي هو حصيلة الممارسة التلقائية (الشعبية) للغناء والعزف. أمّا التراث التقليدي، فيشتمل على أنواع وصِيَغ محدّدة من العزف والغناء (السماعي، والبشرف، والموشّحات، والأدوار، والقصائد، على سبيل المثال). وتجدر الإشارة إلى أنّ مؤلّفي مقطوعات التراث التقليدي ليسوا مجهولين كما في التراث الشعبي. لينا شاماميان استعانت بوجهَي التراث المذكورَين فأدرجت، في جديدها، «على موج البحر»، و«حوّل يا غنّام»، و«بالي معاك»، و«يا مسافرة»، و«دعوني أجود» (من فولكلور بلاد الشام)، وموشّح «لمّا بدا يتثنّى» للمصري عبد الرحيم المسلوب، والذي يعتقد البعض – علماً بأنّ الاعتقاد هذا بعيدٌ كلّ البُعد عن الحقيقة التاريخية – أنّه ينتمي إلى «الموشّحات الأندلسية». لماذا قرّرت شاماميان أن تخوض مغامرة إحياء التراث؟ ولماذا انكبّت على تقديم القدود والموشّحات مثلاً، بعد دراسة متعمّقة لقواعد الغناء الكلاسيكي؟ ولماذا اقتصر خيار «عصرنة» التراث لديها على دمج العربي ونُثار الجاز؟ بل إنّ السؤال الذي يستمدّ مشروعيّته من واقع الدمج راهناً هو: لماذا الجاز (وإنْ أُخذ بجرعات مخفّفة، أو استُبدل بـ«السالسا» في «عالروزانا» رقم 3، مثلاً)؟
العربي والجاز
النزوع المتزايد إلى خليط «العربي والجاز» يستحقّ التوقّف عنده، وخصوصاً في ظلّ سيطرته على المشهد البانورامي للدمج في العالم العربي. ثمّة تجارب محدودة استطاعت أن تخترق هذا الواقع الذي أصبح بائخاً كثوبٍ رثّ، لكنّها لم تكن مؤثّرة بالقدر الكافي لتلوين هذا المشهد الذي أقلّ ما يمكن أن يُقال عنه إنّه دَوَرانيّ، وأحاديّ البُعد. تجربة لينا شاماميان متفرّدة من دون شكّ، وإنْ بدا، في كثيرٍ من الأحيان، أنّها تنهل من عينٍ تكاد تشحّ من فرط ما استُنزفت. يتّسم مشروعها بخصوصيةٍ ما، مع أنّه يبدو عاديّاً للغاية (على المستويَين الشكليّ والضمني) إذا ما قورن بما قدّمه زياد الرحباني، وتوفيق فرّوخ، وظافر يوسف، وسواهم. المقارنات لا تجدي نفعاً ههنا، ولا تلبّي حاجة النقد بالضرورة. وحين نوازن بين نتاجاتٍ كهذه لا يبقى الموضوع مقتصراً على «عصرنة» التراث، بل يتعدّاه إلى إشكالية الدمج عينه. قد يكون من الأفضل طرح تلك الأسئلة على باسل رجوب أيضاً. فبالإضافة إلى «هالأسمر اللون» و«شامات» لشاماميان، شارك رجوب في إنجاز أسطوانتها الجديدة «المجموعة» مضفياً رؤيته عليها، من أوّلها إلى آخرها. الدور الأكبر في كواليس العمل هذا كان لباسل رجوب. تنمّ كيفية تقطيعه ونسجه لتلك الرؤية عن موهبةٍ صافية، وعن تأثّره الواضح والمباشر بزياد الرحباني. كيف لا، وقد استقى روح أَسطُره المؤسلبة من بئر زياد (علماً بأنّه أصبح عضواً في فرقته). مَن يختلط كثيراً بزياد الرحباني لا يسلم من تأثيره.
قلتُ ذلك من قبل، وأكرّر ما قلت. فـ«مدرسة» زياد سيف ذات حدّين، ومعدودون هم الذين عملوا معه، وتمكّنوا من اجتراح مساحات تجريبية أخرى. باسل رجوب وكلّ الموسيقيين «المسكونين» بزياد أمام تحدٍّ فعليّ، وما لا ريب فيه أنّ بعضهم سيكون بمقدوره أن يخطّ، يوماً ما، طريقه المستقلّ. لعلّ باسل رجوب في مقدّمة قائمة أولئك الذين يعوَّل عليهم في استنباط بعض الأفكار التأليفية والتوزيعية الجريئة، والمنعتقة من ظلال الآخرين. وفي العودة إلى أسطوانة شاماميان، لا بدّ من الإشارة إلى أنّها تحتوي على أغنيةٍ من الفولكلور الأرمني (الرقم 14)، وأخرى بعنوان «هوفاريك» (غوميداس). ما زوّد الألبوم – الذي شارك في تنفيذه عزفاً كلٌّ من ناريك عباجيان (بيانو)، وخالد عمران (كونترباص)، وأولغا يعقوب (تشيلّو)، وربيع عازر (فيولا)، وفلاديمير كراسنوف (ترومبون)، ومانفرد لويشتر (أكورديون)… – بطابعٍ ونكهة مختلفَين، وإنْ في الدقائق العشر الأخيرة.
لصوت لينا شاماميان وَقْعٌ خاص لا يفسَّر، إذ إنّه غير قابل للتأويل النمطيّ. يحثّ ألبومها الجديد على التفكير في مستقبل التراث الموسيقي العربي والشرقي في ظلّ ازدياد التأثيرات الوافدة، وأسئلة الهوية. ويحضّ جديدها، أيضاً، على التأمّل في التيّارين البارزين راهناً، والمنطلقين من مهمّة إحياء الموروث. لا يخفى على أحد أنّ التيّار الأوّل محافظٌ بعض الشيء. أمّا الثاني (ينتمي إليه رجوب وشاماميان)، فيتّجه نحو التنشيط الدينامي dynamization الذي قد يُحدث، مع مرور الوقت، تأثيراً في الصِيَغ المستقرّة والثابتة، وهذا هو كُنه التجديد في الموسيقى.
السفير