صفحات ثقافية

أعشاش في صناديق البريد

null
خيري منصور
يروى عن أرملة عاشت بقية حياتها في عزلة موحشة أنها كانت تكتب رسائل إلى نفسها وتضعها في صندوق البريد، وحين يطرق ساعي البريد باب بيتها تتظاهر بالفرح وتقول له إنها كانت تنتظر الرسالة بفارغ الصبر .
وربما لهذا السبب وبعد هذه الحكاية كتب شاعر فرنسي أن الطيور تبني أعشاشها في صناديق البريد المهجورة، بعد أن طردها الفاكس والإنترنت مثلما طردت آلات المصانع النسّاجين وبعض المهن اليدوية .
والكاتب الذي يشعر بالقطيعة عن المرسل إليه، ويناجي نفسه غالباً ما ينتهي به الحال إلى مصير تلك الأرملة، فيكتب رسائل إلى نفسه وقد لا يقرؤها لأنه يحفظها عن ظهر قلب لسبب بسيط هو أنه الذي كتبها .
وفي واقعنا العربي الذي تحول فيه الإنسان إلى ما يقال عن أم العروس، يروح ويغدو وينشغل ويتدافع مع الآخرين في الزحام ليحدث شيء غريب، بل مفارقة نادرة الحدوث وهي تزاوج البطالة مع العمل الدؤوب، لكن ما نعنيه بالبطالة ليس دلالاتها التقليدية، فقد يكدح إنسان أو مجتمع طيلة العمر بلا طائل، وهذا ما عبّر عنه عامل بريطاني عجوز في إحدى الروايات عندما أجاب رجلاً سأله وهو يوصل الأسلاك بين أعمدة الهواتف . .
– إنه أمر يدمّر الروح، وحين استوضح منه السّائل أضاف أن ما يقوم به هو بطالة حقيقية، لأن الفراغ يعصف بعقله وروحه .
أما خير مثال على هذه البطالة السرية فهو ما حدث ذات يوم مع الروائي الأمريكي آرنست همنغواي، فقد مرّ به جاره وهو جالس على أرجوحة يدخن ويتأمل، وطلب منه أن يتناول معه القهوة، لكن همنغواي اعتذر قائلاً لجاره إنه منهمك وفي ذروة العمل . بعد أيام مرّ الرجل أمام منزل همنغواي فوجده منهمكاً في تشذيب أشجار الحديقة وقد بلل العرق جبينه، فأيقن أن همنغواي مشغول وعليه ألا يثقل عليه، لكن ما حدث كان مفاجأة للرجل، إذ صاح به همنغواي قائلاً: تفضل لا بأس أن نشرب القهوة معاً ونثرثر فأنا ليس لديّ ما أفعله .
وكانت عبارات همنغواي صادمة لهذا الإنسان العادي، فألح بالسؤال على مضيفه كي يجيبه عن سؤال يشغله وهو كيف يعرف الروائي العمل والبطالة؟ عندئذ ضحك آرنست وأفهم جاره أن مفهوم البطالة ارتبط بالعمل اليدوي والجسد وهذا غير صحيح، لأنه عندما كان يتمطى على الأرجوحة، كان يبدع الفصل الأخير من رواية، لكنه عندما كان يشذّب الأشجار لم يكن يفكر في أي شيء غير الأشواك والسكين الذي يحمله .
وحين يتذرع العربي الآن بأنه لا يملك الوقت للقراءة أو التأمل بسبب عدم توفر الفراغ، يدفعنا إلى عدة تساؤلات، منها هذه المليارات التي تُنفق على الثرثرة في الهواتف النقالة، ومنها هذه النميمة التي تستغرق ساعات وسهرات وقيلولات في حياتنا حتى التذرع بغلاء أسعار الكتب لا يصمد أمام مقارنة أغلى سعر لكتاب مع أرخص سعر لأداة ماكياج أو لسلعة كمالية قد تُقتنى ولا تُستخدم على الإطلاق .
لهذا يتحول منتجو الأفكار إلى أرامل يكتبن رسائل لأنفسهن لكن في زمن لا يوجد فيه سعاة بريد .
ولو شئنا تسمية الأشياء بأسمائها لقلنا إن ما يحدث الآن هو مونولوج طويل، يحدّث الناس خلاله أنفسهم ولا يسمعون غير صدى أصواتهم، أما الديالوج أو الحوار بين طرفين فهو غائب أو مُغيّب، وربما لهذا السبب يفرط الناس في الحديث عن ضرورة الحوار كما يفرطون في الكلام عن الديمقراطية، فالإنسان كما قال برنارد شو لا يثرثر كثيراً إلا عما ينقصه، أما صناديق البريد فيكفيها أنها تحوّلت إلى أعشاش .
القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى