صفحات ثقافية

أكثر أو أقلّ لا فرق

null
إبراهيم حسو

(1)
كان في مقدور الشعرية العربية البحث عن مكوّناتها البنائية في المعطيات العامة التي كانت تنتجها، وتعمل على إعلائها نظريا، وكان لا بد لهذه المعطيات الجديدة من إنتاج نوعين من الخلق، الأول شعري والثاني معرفي، يمكن البناء عليهما والارتكاز على مصادرهما، لأن الشعرية العربية لم تكن يوما مصدرا صرفا إلا في التحاقاتها بمصادرها التراثية والتحامها في ما بعد وفي أوائل القرن العشرين بالشعريات الأجنبية الوافدة والمستوردة، وخصوصاً الحداثة الفرنسية بالذات عقب فترات مرحلية متلاحقة. وكانت الشعرية في أوروبا تمتحن خلاّقيها وتفرزهم وفق “الحداثات” التي كانت تظهر بين سنة وأخرى في إعطاء التجربة حقها في الدفاع عن مكوّناتها وتمايزها المرحلي. ولكوني أريد شعرية أخرى قادرة على منح المعرفة كإنتاج عقلي في درجة أولى، وقادرة على منح الجمال كإنتاج بصري ذهني في درجة ثانية، فقد لجأت إلى قصيدة النثر التي وسعت لي الطريق أمام معرفة ذاتي ومعرفة الجمال الذي فيّ، ولم يكن يهمني السير وراء الاتجاهات النقدية المرافقة لهذه القصيدة أو تلك، فقصيدة النثر هي الوحيدة لم تدجّن ولم يكن لها حرّاس كما كان لقصيدة التفعيلة والقصيدة العمودية. فهي حرة بكل معنى، ابتداء بمظهرها كشكل فريد، وانتهاء بفضاءاتها التي لا حدود لها.
تبين الشعريات التي تلاحق قصيدة النثر، كم كانت هذه القصيدة مظلومة على يد جيل كامل من النقاد، الذين كان معظمهم مع الأسف من متخرجي قصيدة التفعيلة، وكم هو اسفنا عظيم لأنه حتى الآن لم يظهر ناقد كبير كانت بدايته الشعرية قصيدة النثر.
(2)
ما أكتبه لا يمكن وضعه تحت مسمّى كتابي معيّن، بل يمكن وضعه ضمن كتابة هي أشبه بكتابة هذيانية مريضة، تكون عالية هنا ومنخفضة هناك، ساطعة هنا مشرشرة هناك، قوية البنية هنا ضعيفة الشكل هناك. ما اكتبه نوع من أنواع الكتابة الآلية لا يمكن ضبطها ضمن حدود، ولا يمكن الأخذ بها كنوع أو شكل كتابة نثرية، مع أنني أجد واقرأ كل يوم نماذج كتابية تشبه ما اكتبه تحت اسم قصيدة النثر. ما اكتبه تشويه صارخ لمشاعر منسابة وجارفة لا أستطيع مقاومتها أو ترويضها ضمن قالب شعري معين. بل لا يمكنني أن أضع حدا لهذه الكلمة وحاجزا لتلك المفردة في سبيل “الانسيابية” أو “الغنائية”. أكره القصائد الغنائية التي تترك كل شيء في سبيل ضبط المفاعيل وفعولن فعولن مستفعلن ضمن بركة قصيدة التفعيلة. اكره التفعيلة ولا اعرف كيف تكتب قصيدة التفعيلة ولماذا تكتب بهذه الصرامة وهذه الاتيكيت الشعرية الرصينة. ما اكتبه أكثر من قصيدة النثر أو أقل، لا فرق عندي طالما غايتي ليست شكل الكتابة وحدها بقدر كيفية معرفة الكتابة كنص حقيقي. اعتقد أن المستقبل لقصيدة النثر التي يكتبها جيل لم يكن له امتداد شعري مثلما لبعض شعراء كانوا يتحصنون ضمن قصيدة التفعيلة وفجأة تحولوا نحو كتابة قصيدة النثر بين ليلة وضحاها، وهؤلاء اليوم تحولوا نقاداً لهذه القصيدة ومربين أفاضل لجيل سيمتد أكثر من الأجيال التي ظهرت فيها باقي الإشكال الشعرية الأخرى.
(3)
كتابي الأول “الهواء الذي ازرقّ”، لا يزال في صدارة أردأ كتاب شعري سوري على الإطلاق، وقد احترت لماذا لم احرق هذا الكتاب قبل نزوله على رغم إيماني العميق والدائم بأنني كنت متسرعا إلى درجة الجنون في طباعته، لكن الأصدقاء (الله لا يسامحهم) كانوا يربتون قلبي ويقولون لي: لماذا لا تطبع كتابك هذا وتوزعه، انه رائع جدا. سيكتب النقاد ما لم يكتبوه عن شوقي أبي شقرا وأندره بريتون. ولا أزال انصاع إلى كلامهم وأنا ادفع رماد الكتاب الذي أحرقته وسحبت الجزء الكبير من الأسواق إلى جوف عيوني نادما على كوني كنت شاعرا حداثويا من طراز أول. أقول، الله يسامح النقاد الذين لم يكتبوا كلمة عن هذا الجيل الشعري الجديد الذي يسير نحو بناء قصيدة النثر الجديدة وعيناه نصف مغمضتين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى