الخمينية المعدّلة والمعجّلة، أو كيف أمكن محو الخاتمية من الذاكرة؟
وسام سعادة
لم يجد التيار المهدوي المسلّح الذي حمل رايته محمود أحمدي نجاد كبير صعوبة في تكبيل التجربة الإصلاحية المعتدلة، الجريئة حيناً والخجولة حيناً آخر، التي جسّدها السيد محمد خاتمي أثناء تبوئه سدّة رئاسة الجمهورية الإسلامية. كيف أمكن ذلك، بكل هذه السهولة؟ وما مصير ذاك الكم الهائل من الدراسات التي ازدهرت قبل أعوام قليلة، حول حيوية المجتمع الإيراني المتوثّب للإصلاح والحرية؟
يكتسب السؤال راهنيته، بعد ثلاث سنوات على فوز نجاد بالإنتخابات الرئاسية، وهي سنوات سُخِّرت فيها “الساحة” اللبنانية بالتحديد، كحقل تجارب للنجادية. فما تكون “النجادية”؟ هل يكفي القول بأنها “خمينية عصر ما بعد 11 أيلول”، وما بعد الاحتلال الأميركي لأفغانستان والعراق؟ الخمينية المظفّرة في إثر الانسحابين الإسرائيليين الأحاديين من جنوب لبنان وقطاع غزّة؟ أم يكفي القول بأنها “خمينية المشروع النووي الامبراطوري”، الجامع بين تأكيد طابعه السلمي التنموي الصرف واستعادة شعار تدمير دولة اسرائيل؟ هذا في وقت يترافق فيه النفي النجادي المعيب لفظائع العهد النازي في حق ملايين من اليهود، مع انبثاق نوع من “سايكس بيكو إيراني – اسرائيلي”، ما يزيد من وتيرة تفسّخ مجتمعات المشرق العربي المصابة بمرض “الممانعة” وتآكلها.
يمكن الخوض في كل واحد من هذه العناوين، لكنها، جميعها، ما عادت تفي بالغرض. فالنجادية قبل كل شيء آخر، جاءت تكذّب التصوّر المتسّرع لدعاة مدرسة “ما بعد الإسلاموية” في الغرب (جيل كيبيل وأوليفييه روا)، الذين خالوا أن التطوّر “الثرميدوري” محتّم في ايران، من حيث الإنتقال من منطق الثورة إلى منطق الدولة، أياً تكن التعرّجات والمنعطفات الواجبة. خالت هذه المدرسة أن من الميسور ايرانياً، تعزيز العناصر الديموقراطية في النظام الدستوري والسياسي على حساب العناصر الثيوقراطية، شيئاً بعد شيء، تماماً مثلما خالت أن من الميسور تركياً، تعزيز العناصر الديموقراطية من خلال التصالح مع الهوية الإسلامية الدينية والتراثية.
أسّست مدرسة “ما بعد الإسلاموية” حكمها التفاؤلي في صدد ايران على تداعيات الحرب الإيرانية – العراقية. وجهة نظر هذه المدرسة أن ايران المتعبة بعد الحرب – الكارثة، باتت ايران المصدومة بالواقع، والتي تؤهّلها الصدمة لتجاوز الطوباوية الثورية ومنطق تصدير الثورة إلى حيث منطق الدولة، وإلى حيث اعادة الإعتبار الى المعيار النفعي في قبالة اللامعيار الغيبي. عادت “النجادية” فأسست مشروعيتها على الكارثة نفسها، أي الحرب الإيرانية – العراقية، إنما ليس للإتعاظ من صدمة الواقع. المرغوب عندذاك، تحقيق الشروط المؤهلة لصدم الواقع نفسه مرةً أخرى.
لم يتأمن انتصار “النجادية” في ايران من خلال الاقتحام التأديبي المتكرّر للجامعات فحسب، ولا من خلال خلط مجلس بلدية طهران بين الشعار المتبرئ من الفساد والشعار المتطهّر من القيم الغربية – الاستهلاكية.
جرت أيضاً إعادة الإعتبار الى مرحلة الحرب الإيرانية – العراقية. أعاد التيار المهدوي المسلّح الاعتبار الى أولئك الذين “ضحّوا أكثر من سواهم” أثناء الحرب. صارت الحرب ملحمة للغيب بامتياز. لم تعد مجرّد حرب متمّمة للثورة الدينية، بقصد الدفاع عن هذه الثورة أو بقصد تصديرها. صارت هي الثورة.
الديموقراطية الإسلامية إما أن تكون مهدوية في تعريفها وإما أن لا تكون. أن تكون مهدوية فهذا محكوم أولاً بأن تعطي “الشهداء” الذين قضوا، وبأعداد هائلة في أيام الحرب، حق التصويت، قبل سواهم وأكثر من سواهم. مبدأ الشورى له أن يتخطى الحاجز القبري الفاصل بين الأحياء والأموات. إذا كان شعار بلاشفة بتروغراد “كل السلطة للسوفياتات”، فإن الشعار القابض ذهنياً على المهدويين النجاديين هو “كل السلطة للشهداء”. يمارس الشهداء سلطانهم، بمعية “الشهداء الأحياء”، وتنظيمياً، بواسطة ميليشيات التعبئة الشعبية من الباسيج.
لا شك أن النموذج “الانتصاري” لـ”حزب الله” اللبناني لعب هو الآخر دوراً حيوياً في تأهيل التيار المهدوي المسلّح داخل ايران. بيد أن “الإنتصارات الإلهية” في لبنان، من تحرير الجنوب إلى حرب تموز، إلى الاعتصام الدائم، إلى غزوة بيروت، تبقى مشابهة، في نظر المهدويين الإيرانيين، للميداليات الذهبية التي كان يحرزها رياضيو بلدان المعسكر الإشتراكي في الألعاب الأولمبية، فيطمئن بعد ذلك الشيوعيون في العالم أجمع إلى حتمية انبثاق انسان جديد، متفوّق ذهنياً وبدنياً، في ظل الإشتراكية.
بمعنى آخر، ما كان في إمكان التيار المهدوي المسلّح الإكتفاء بـ”الانتصارات الإلهية” الواردة من لبنان، ليقيم حجّيته، لو لم يتمكّن من إعادة تأويل الحرب الإيرانية – العراقية على النحو الذي يظهرها ككربلاء مطلقة، وعلى النحو الذي يظهر سقوط نظام صدام حسين في ما بعد كعقاب الهي، تماماً مثلما تأولت الإمامية انتصار العباسيين على الأمويين على هذا النحو.
بيد أن هذا التأويل المهدوي البحت للأحداث ما كانت لتؤهله النظرة الخمينية وحدها.فالخمينية تعني شيئاً من قبيل “كل السلطة للفقهاء”، أي أنه ما عاد ينبغي أن يكتفي فقهاء الإثني عشرية بوظيفة الإجازة الشرعية لحكم الملوك. عليهم أن يكونوا هم الملوك، عليهم أن يختاروا ملكاً من بينهم، وليّ أمر للمسلمين. الوكالة المعطاة للولي مطلقة. ليس معصوماً، لكن له ما للمعصومين من سلطان زمني، وبإسناد من نظرية “الجعل الإلهي”، تحاشياً للهرج والمرج، وتثبيتاً لأركان الحكومة الإسلامية.
هذه الوكالة المعقودة للفقيه العادل، أحرجت مشروعيتها في اثر الحرب الإيرانية والعراقية، لكنها أكدت طابعها الإطلاقي في نهايات الحرب أكثر من ذي قبل. وقد بدا للكثيرين أن هذه الوكالة وإن تكن مطلقة، الا أنها مرهونة بالكاريزما المنقطعة النظير التي كانت للإمام الخميني، وأن عجز خلفه عن الإتيان بكاريزما ثيوقراطية شبيهة سوف يؤدي لاحقاً إلى نزع السحر عن ولاية الفقيه، ما يؤدي الى تقييدها. جرت المراهنة على احتمالات تعطيل السحر بالسحر، باعتبار أن الخميني حتى بعد وفاته سيفضل هو لا أحد سواه، بمثابة “الولي الفقيه المطلق” الغائب الحاضر، بحيث لا يمكن سلفه الا أن يمارس ولاية مقيّدة واتباعية، ومستنزفة دوماً بحملات التشكيك.
غاية القول في هذا المجال أن الأدلوجة الخمينية حول الولاية المطلقة للفقيه (كل السلطة للفقهاء حين يصير الفقهاء آباء للثورة الدائمة) كانت تمهّد لنضوبها السريع بعد وفاة الإمام الخميني، لو لم يجر تلقيحها من أدلوجات دينية أخرى، وأن “النجادية” ترمز في هذا المجال إلى هذا التلقيح بالذات.
فالنجادية تعني في المقام الأول تزويد الخمينية إكسير إحياء من خارجها، إكسيراً مقتبسة عناصره من فرقة مخاصمة تقليدياً للخمينية، هي فرقة “انجمن حجتية” التي أنشأها الشيخ محمود حلبي في مدينة مشهد مطلع الخمسينات من القرن الماضي، لمواجهة البهائية، وبدعم من الشاه آنذاك، ثم كان أن اصطدمت لاحقاً بالشاه يوم عاد الأخير فتصالح مع البهائية. تعطي “الحجتية” دوراً لأنصارها في “تعجيل” ظهور المهدي، الإمام الغائب الحجة، القائم بالقيامة، قائم آل محمد. وهي تالياً تتعارض مع نظرية “ولاية الفقيه” المطلقة، المعنية أولاً بإيجاد صيغة سياسية لحياة الأمة فيما لو تأخر ظهور المهدي ألف عام جديد. في أواخر السبعينات، أيّد الشيخ حلبي على مضض قيام نظام ولاية الفقيه، لكن الخميني لم يتأخر في شجب فرقة “الحجتية” في 12 تموز 1983، وأقدمت الفرقة لاحقاً على الحل الطوعي. ويرى نواح فيلدمان في هذا المجال أن الحجتية شُجبت ولوحقت في ظل الخميني لأن الظهور المهدوي ليس يمكن تسريعه.
يبقى أن عناصر هذه الفرقة انقسمت بعد ذلك فرعين، فرعاً يرى أن ولاية الفقيه المطلقة من شأنها أن تؤخر علامات ظهور المهدي، وتالياً ينبغي إما الخروج على ولاية الفقيه، وإما اتباع التقية حيالها، وفرعاً يرى أن ولاية الفقيه المطلقة من شأنها على العكس من ذلك تماماً، تعجيل علامات ظهور المهدي، وأن الثورة الإيرانية إن هي غير بداية الظهور.
يصرّ ميشال توبمان، كاتب سيرة محمود أحمدي نجاد التي صدرت بالفرنسية مطلع هذه السنة تحت عنوان “القنبلة والقرآن”، على أن نجاد، رجل العمليات الخاصة في الظل، والذي حمل لقب “خلص زان” في الثمانينات، لأنه كان يهوى اطلاق رصاصة الرحمة لتحطيم رؤوس المحتضرين في أقبية التعذيب، إنما ينتمي من خلال تقليده لآية الله مصباح يزدي، الى مذهب “الحجتية”. الجدال لا ينتهي داخل ايران وخارجها حول علاقة يزدي بـ”الحجتية”. لكن ما يهمّنا ليس العلاقة “التنظيمية”، وإنما “الصلة الايديولوجية”. لقد استعارت “النجادية” فكرة “تعجيل الظهور” من “الحجتية”، لأجل انقاذ الخمينية، واكسابها اندفاعة حيوية من جديد.
عنت “الخمينية” في تاريخ الفقه السياسي الشيعي مذهباً يتأسس على “مركزية الغيبة الكبرى” (ولاية الفقيه مطلقة لأن غيبة الإمام كبرى لا صغرى). لكنها مع تعديلها الحجتي – النجادي صارت مرتبطة بـ”مركزية تعجيل علامات الظهور” (على الولاية المطلقة أن تشقّ الطريق السريع للظهور المهدوي)، ذلك من خلال اسباغ مضامين مهدوية على ملفات ثلاثة: توعّد اسرائيل بالكارثة. المحرقة لم تحدث، المحرقة آتية. وعد المسلمين الشيعة بالقنبلة النووية. العودة الى المدائن، العودة الى نهر دجلة.
بيد أن هذا التلاقح بين شعاري “كل السلطة للفقهاء” (الخمينية) و”كل السلطة للشهداء” (المهدوية الغالية)، لم يكن ممكناً لولا توظيف عنصر ايديولوجي ثالث. هذا العنصر الايديولوجي الثالث يجد مستقرّه في التركة الفكرية لعلي شريعتي، الذي أقام تضاداً غير مسبوق بين نمطين من التشيع: التشيّع الصفوي، المبني على ثنائية الملوك والفقهاء، في مقابل التشيّع العلوي، أي أولوية استحضار الأئمة، بواسطة مجتزآت من الفلسفة الوجودية، في وجه ثنائية الملوك والفقهاء.
تمثّل تركة علي شريعتي نبعاً من الماء شرب منه كل من السيد محمد خاتمي ومحمود أحمدي نجاد، انما لغرضين مختلفين. تفيد هذه التركة أن الخمينية إما أن تكون وجهاً آخر من التشيّع الصفوي، وإما أن تكون إحياء للتشّيع العلوي. تفيد ازدواجية الاستعارة الخاتمية – النجادية لأفكار شريعتي أن هذه الأفكار إما ان توظّف للتخفيف من الخمينية، وإما أن توظّف لتأجيجها. قدّم شريعتي جان بول سارتر كشيعي إمامي من حيث لا يدري، وقدّم الأئمة الأطهار كعلماء اجتماع. أقام التضاد بين مجتمع النباهة السارتري – الشيعي المنشود وبين ما سمّاه “الاستحمار”، أي مؤامرة التجهيل والالهاء التي تسند الاستعمار في بلاد المسلمين.
نزعم أن الشريعتية تمثّل المصدر الثالث للمهدوية النجادية، بل المصدر الواصل بين “مركزية الغيبة الكبرى” في الخمينية و”مركزية تعجيل علامات الظهور” في “الحجتية”، ذلك من خلال فائض الشعبوية التي اختزنته كتابات علي شريعتي، ولم يكن نافلاً أن يوجّه داريوش شايغان سهام نقده ضد شريعتي بالتحديد في كتاب “ما هي الثورة الدينية؟”.
فشلت الخاتمية لأنها استندت الى أفكار مستلة من الوجودية الشعبوية عند علي شريعتي. أحمدي نجاد كان الأقدر، مهدوياً، على الممانعة في وجه ما سمّاه شريعتي “الاستحمار”.
من يذكر استقبال “حزب الله” الجماهيري للسيد خاتمي في مدينة كميل شمعون الرياضية؟ من يذكر “خاتميي” لبنان، الذين كادوا أن يمثّلوا حالة ثقافية على يسار “حزب الله”، فصاروا اليوم من عتاة المبرّرين لغزوة بيروت؟ من هنا الخلاصة: من طريق الاستنجاد بـ”الحجتية” أمكن انقاذ ولاية الفقيه المطلقة من التكلّس، وبواسطة “الشريعتية” سهل محو الخاتمية، بسرعة فائقة، من الذاكرة ¶