التصنيع الأيديولوجي للعدو
محمد سيد رصاص
صدر كتاب في لندن في السنة التالية لاندلاع ثورة14تموز 1789في باريس بعنوان:”تأملات في الثورة الفرنسية”. كان المؤلف،أي إدموند بيرك،ليبرالياً انكليزياً منتمياً إلى حزب الأحرار:”الويغ”،الذي كان سليل من قاموا بثورة1688الإنكليزية الدستورية التي جعلت الملك يملك ولايحكم ونقلت السلطة للبرلمان والوزارة التي تنبثق عنه،ومعادياً لحزب المحافظين:”التوري”.
ماكان مفاجئاً في الكتاب هو النظرة المحافظة، عند ليبرالي انكليزي حيال مايحدث في الضفة المقابلة من المانش، تجاه ثورة كانت بشكل أوبآخر،عند ملهميها الفكريين من أمثال فولتير وروسو ومونتسكيو،تحاول السير على خطى ماجرى بعام1688 في لندن. لم يكن هذا العداء نابعاً من سياق الصدام التي وجدت انكلترا وفرنسة نفسيهما فيه خلال قرون سابقة وصولاً إلى حرب السنوات السبع(1756-1763)،وإنما من منظور أيديولوجي وقف ،من خلاله،سليل الليبرالية الانكليزية إلى جانب”قوى المجتمع القديم” الفرنسية ضد رياح ثورة،أوماسماه الشاعر الانكليزي شيلي ب”الرياح الغربية”،ليضع عبر كتابه هذا الترسانة الأيديولوجية قبل أن تنطلق بسنوات حروب أوروبية ضد الثورة الفرنسية استغرقت عشرين عاماً حتى أعادت آل بوربون إلى قصر فرساي إثر هزيمة نابليون بونابرت،سليل ووريث قوى ثورة1789،في معركة واترلو بعام1815.
كانت تلك الترسانة الأيديولوجية في خلفية نيران مدافع الملك الإنكليزي والقيصر الروسي وملك بروسيا،المتحالفون ضد الثورة الفرنسية: انبنت تلك الترسانة على نظرة فلسفية وُضِعت فيها (التجربة)و(الوقائع) ضد (التجريد)و(الأفكار)،ليعتبر بيرك من خلال ذلك أفكار الثورة الفرنسية،وملهميها من مفكري وفلاسفة عصر الأنوار الفرنسي،مجرد نظريات وأفكار تتعارض مع وقائع راسخة عبر قرون،وأنه لايمكن بناء تغيير على الهدم،وإنما يجب”بناء الحرية والتغيير على ووفقاً لتقاليد النظام القائم ووقائع القرون الماضية”وأن الأخيرة هي أرسخ وأمتن من الثورات التي تمزج”الحرية بالفوضى وتجعلها في تعارض مع النظام”.
بدون تلك الترسانة الأيديولوجية،التي قدمها مفكر انكليزي باكراً ضد مقتحمي الباستيل،ماكان ممكناً تزييت مدافع حروب قلقلت وهزَت القارة العجوز شنَتها القوى والسلطات الأوروبية المتحالفة للمجتمع القديم ضد سلطة ثورة1789،ثم ضد ثورات1848-1849،ولاالصراعات المحلية التي شنتها “القوى المحافظة”ضد “الثوريين”في أكثر من بلد أوروبي خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر.
لم يكن هذا مبنياً على اختراع أوتصنيع عدو أوخصم،وإنما يقوم على بناء أفكار وتصورات للعالم توضع في مواجهة خصم سياسي يهدد المصالح من خلال أفكاره وبرنامجه، المبنيان بدورهما على رؤية مختلفة للعالم. هذه العملية هي التي تصنع العدو أيديولوجياً،وهو مايجعله مرئياً ومحدداً وملموساً، وهي التي تخلق الحافز المعنوي لمواجهته ومحاولة هزيمته أوعلى الأقل تحجيمه،وهو أمر لاتستطيعه إلاالأفكار،ولايكفي لتحقيقه الوعي الغريزي بالمصالح المادية أوالسلطوية ضد خطر عدو يكون مستهدفاً تلك المصالح والمواقع.
تكررت هذه العملية ،التي قام بها إدموند بيرك عند بداية حقبة تاريخية رسمت ملامح القرن القادم،في يوم22شباط1946 عبر نص من حوالي45صفحة أرسله إلى واشنطن ديبلوماسي شاب مغمور في السفارة الأميركية بموسكو،اسمه جورج كينان:في تلك الفترة،التي أعقبت انتهاء الحرب بإستسلام ألمانية يوم8أيار1945واليابان في 14آب،كان يسيطر على سياسات إدارة الرئيس الأميركي ترومان تصورات سلفه روزفلت(توفي في 12نيسان1945)حول ضرورة الحفاظ على السلم الدولي بعد الحرب وعدم تكرارتجربة مابعد1918عبر تماسك قوى الحلفاء المنتصرين على محور برلين- طوكيو من خلال أفكار مثل”قوى البوليس الأربعة للعلاقات الدولية:واشنطن- لندن- موسكو- بكين”وهو ماانبنى عليه أساساً تصور تركيب مجلس الأمن الدولي في هيئة الأمم المتحدة. كان مؤتمر بوتسدام (تموز1945)مناسبة لترومان لكي يدرك صعوبة تحقيق تصورات روزفلت مع”الشريك”ستالين الذي بسطت جيوشه سيطرتها على شرق ووسط أوروبة وأراد ترجمة تلك السيطرة العسكرية إلى وقائع وحقائق سياسية،إلاأن الرئيس الأميركي قد ظل لأشهر لاحقة يظن بأن الحالة الإحتكاكية بين الحلفاء المنتصرين هي ليست أكثر من حالة سوء فهم أوعلى أبعد تقدير تعارضات يمكن تجاوزها عبر تسويات هنا أوهناك. في ذلك النص الذي قدمه كينان،والذي يسمى في التاريخ الديبلوماسي ب”البرقية الطويلة”،رأى الديبلوماسي الأميركي أن تعارضات موسكو وواشنطن ليست ناتجة عن سوء فهم بل آتية من رؤية مختلفة للعالم عند الكرملين”موجودة في الأيديولوجية الشيوعية”والتي “وجد فيها الحكام الروس مسوِغاً عقيدياً لخوفهم الغريزي من العالم الخارجي” وهو “خوف قديم عند الروسي الساكن في السهول الفسيحة من غزوات البدو التتار من الشرق والجنوب الشرقي،ثم ترَكب على هذا الخوف شعورقلق آخر عند الروسي منذ القرن الثامن عشر أشعره بالتهديد والتأخر تجاه الغرب الأوروبي الأحدث والأقوى والأرقى حضارياً”.هنا يرى كينان أن هذا يجعل كل حاكم روسي”يبحث عن الأمن عبر الصراع من أجل التدمير الكلي للقوة المنافسة،وليس عبر الوصول إلى تسوية معها”،وهو يرى أن لوحة مابعد1945مابين الكرملين والبيت الأبيض متحدِدة بصراع وجودي بين قوتين عظميين وحيدتين كل منهما في موقع أيديولوجي مضاد ومتناقض مع الأخرى من أجل السيطرة على العالم عبر هزيمة الطرف الآخر وتدميره،وهو ماأعلنه عبر العبارة التالية وزير الخارجية الأميركي دين أتشيسون بعد قليل من بداية (الحرب الباردة)منذ اعلان”مبدأ ترومان”في يوم12آذار1947:”وصلنا إلى وضع فريد من حيث بقاء قوتين عظميين فقط ، ليس له سابقة سوى في حالة روما وقرطاجة”.
تحقق مافعلته روما مع هانيبعل،ولكن عبر وسائل أقل عنفاً، لما انفردت”روما الجديدة”بزعامة العالم بين عامي1989و1991 مزيحة السوفيات عن الواجهة. منذ صيف 1989بدأت عملية التسويغ الأيديولوجي للإنتصار الأميركي وتحوُل واشنطن إلى (قطب واحد للعالم) من خلال مقالة فرانسيس فوكوياما:”نهاية التاريخ”،المنشورة بالعدد الفصلي من مجلة”ناشينال انترست”بذلك الصيف.كان ذلك التسويغ متعلقاً بوضعية(الذات المنتصرة)،واستعيرت من أجل ذلك مقولة هيجل في كتابه”محاضرات في فلسفة التاريخ” حول “أوروبا بوصفها هي نهاية التاريخ” لكي تطبق هذه المقولة الهيجلية على النموذج الرأسمالي- الليبرالي الأميركي في لحظة انتصاره على موسكو السوفياتية. من هنا،كانت هناك حاجة أميركية،في عصر الإنفرادية الأميركية بالعالم،من أجل تصنيع أيديولوجي لعدو يستطيع (القطب الواحد للعالم) عبر الصراع معه إحكام السيطرة على مناطق قلقة أومتفلتة من السيطرة أومضطربة،أوتخشى واشنطن،بحكم تجربة تاريخية،أنها يمكن أن تفرز ،من خلال منابع ثقافية- حضارية،رؤية مضادة للعالم،كماكانت موسكو في فترة الحرب الباردة مع واشنطن. على هذه الخلفية أتت مقالة صموئيل هنتنغتون:”صدام الحضارات”في عدد تموز1993 من مجلة “فورين أفيرز”،والذي يقول في مقدمة كتابه الشارح لتلك المقالة والحامل لنفس العنوان في عام1996،مايلي:”لايهدف هذا الكتاب لأن يكون عملاً في علم الاجتماع،وإنما لأن يكون تفسيراً لتطورالسياسة الكونية بعد الحرب الباردة”،وقد كان ماصرح به أمين عام حلف(الناتو) في عام1994عن”حلول الخطر الأخضر محل الخطر الأحمر” مؤشراً كبيراً على أن مقولة هنتنغتون ليست مجرد استعارة فكرية،جلبها من أوزوالد اشبنغلر أوفرنان بروديل ،وإنما هي تعبير أيديولوجي عن رؤية الغرب الأميركي ل(الآخر)،وعن حاجة إلى تصنيع أيديولوجي لعدو،يمكن لواشنطن عبره أومن خلال مواجهته والصراع معه تحقيق أجندات محددة ل(القطب الواحد للعالم)،وهو ماتحوَل إلى فعل أميركي ملموس إثرماجرى في نيويورك وواشنطن بيوم(11أيلول2001)،الذي صرح الرئيس بوش الإبن بعده بأيام بأن واشنطن هي في”حملة صليبية” ضد “الفاشية الاسلامية”،،قبيل قليل من شروعه في غزو أفغانستان2001ثم عراق2003من أجل “إعادة صياغة المنطقة”وفق تعبير وزير الخارجية الأميركي كولن باول عشية غزو بلاد الرافدين.