جدال حول مفهوم التغيير
مازن كم الماز
حقيقة أن الحديث عن التغيير هو اليوم على كل لسان من السلطة القائمة إلى النخب المثقفة و المعارضة لا يعني الكثير , ففي الحقيقة يتحدث الجميع عن هذا التغيير من منطلق متقارب , رغم التناقضات الشكلية بين الخطابات السائدة , إنهم يتحدثون عن تغيير يمنع خروج الأمور عن السيطرة , تغيير يضع حدا لمخاطر انفجارات غير محسوبة , و هنا لا تقل حماسة القسم الأكبر من المثقفين أو السياسيين المعارضين عن أبواق السلطة القائمة نفسها في الإصرار على أن هذا “التغيير” شيء لا علاقة له في الواقع بالجماهير , أنه يجب أن يتم فوقها أو خارجها , بشرط أساسي هو الإبقاء عليها في حالة شلل و اغتراب عن قضاياها . التغيير المنشود إذن , مثله مثل أي شيء آخر تمارسه الأنظمة و النخب , يجب أن يكون فوقيا , يخص نخبة بعينها , و إلا فإنه سيكون تعبير عن الفوضى , يجب أن يجري في إطار هيمنة السلطة القائمة أو المتنافس عليها على المجتمع و في إطار تبعية المجتمع ( إن لم نقل استسلامه ) لتلك السلطة , إما أن يتم داخل السلطة القائمة نفسها أو أن يجري بيد سلطة أخرى ذات صلاحيات استثنائية كما هو حالة السلطة القائمة حاليا , أي فوق المجتمع و خارجه . إن هذا ليس إلا طريقة مختلفة للتعبير عن التنافس السياسي و الاجتماعي بين النخب السائدة . لقد أنتجت المشاريع النخبوية في الخمسينيات و الستينيات أنظمة الاستبداد القائمة على أساس رأسمالية الدولة البيروقراطية , بسبب رئيسي هو عجز الطبقات السائدة , البرجوازية و على الطرف الآخر الجماهير المهمشة اجتماعيا , عن فرض مشروعها أو التغيير الذي تطمح إليه . استمدت البيروقراطية , التي كانت جزءا مما يسميه بعض السوسيولوجيين بالطبقة المنسقة , التي تتألف من طبقة المدراء و المهندسين , وسائر المثقفين الضروريين لعمل منظومة الإنتاج أو جهاز الدولة البيروقراطي , التي كانت تلعب دور الإشراف على عملية الإنتاج و إدارة وظائف الدولة لصالح الطبقة السائدة , استمدت قوتها و مشروعيتها من هذا العجز بالذات . لا ينطبق هذا المصير على نخبة إيديولوجية بعينها , كان هذا صحيحا بالنسبة للنخبة الكمالية “العلمانية” مثلا في تركيا , كما كان صحيحا بالنسبة للنخب القومية العربية كما كان صحيحا بالنسبة للنخب اليسارية التوجه . و من هنا بالذات , تستمد السلطة استقلاليتها النسبية عن المجتمع , تماما كما هو الحال في النظام البرونابرتي وفق التحليل الماركسي . و لهذا بالذات تصبح السلطة هي محور الصراع بين الأنظمة و النخب . إن الكلام الذي تردده النخبة المتلبرلة لا يعني أي شيء هنا , إنه مجرد رطانة إيديولوجية فارغة , فالنخبة المتلبرلة , و هي تفترض أنها كأية نخبة أو طليعة متفوقة على المجتمع , المتخلف , و هذه الصفة طالما نسبتها الخطابات السائدة للجماهير تحديدا , هي المناط بها تحقيق مثالها الإيديولوجي , أن تفرضه على الجماهير المتخلفة , بمعنى آخر أن تؤسس سلطتها الخاصة بزعم أن هذه السلطة المطلقة , أو شبه المطلقة في أفضل الأحوال , هي الطريق الوحيد أمام “التقدم” المنشود . إن المفاهيم التي تشكل الإيديولوجيا الليبرالية , أو النيوليبرالية , لهذه النخبة , لا تختلف كثيرا بالتالي , عن المفاهيم التي تشكل الخطاب الرسمي للأنظمة الشمولية القائمة , إلا في الشكل . إن تعريف الإنسان وفقا لمفهوم المواطنة الدارج في خطاب النخبة المتلبرلة يعني أنه مواطن في دولة , أن حدود “حريته” تتوقف أو تنتهي عند ما يسمى بمصالح هذه الدولة , و ما يسمى بالدولة المدنية الحديثة هي كأية دولة أخرى , تضع مصالحها فوق مصالح أفرادها , و لذلك فإن ما يسمى بالدولة المدنية الحديثة في خطاب النخبة المتلبرلة ستوجه هي أيضا تهم العمالة و إضعاف الشعور الوطني لخصومها الإيديولوجيين و السياسيين , باختصار , لأن هذا هو منطق أية دولة مهما كان اسمها أو توصيفها من قبل حكامها . لا يجري اختيار السلطة في أي نظام رأسمالي ( بما في ذلك في رأسمالية الدولة ) من خلال صناديق الاقتراع , بل على أساس علاقات القوة و الإنتاج و الملكية السائدة في المجتمع . كما أن المشاريع النخبوية للخمسينيات و الستينيات أنجبت أنظمة استبدادية تقوم على رأسمالية الدولة البيروقراطية فإن أي مشروع نخبوي فوقي اليوم , و في الغد , سيؤدي إلى تحول تلك النخبة إلى بيروقراطية حاكمة على رأس نظام رأسمالية دولة , و سيبقى من الممكن أن نحكم قريبا فيم إذا كانت النخبة المتلبرلة ستخدم شعارات الديمقراطية التي ترفعها بأفضل مما فعل الستالينيون مع شعارات الاشتراكية أو الأنظمة القومية العربية مع شعارات الوحدة العربية التي طالما تغنت بها . و لذلك بالتحديد تختار الصحافة الليبرالية الغربية و العربية ( أو ما يسمى بالصحافة المعتدلة ) أبطالها بعناية من بين ضحايا الوضع القائم بما يبرر مشروعها السلطوي الخاص , سواء الرأسمالي العالمي أم الليبرالي المحلي . إنها لذلك تتجاهل , و هي مضطرة هنا لأن تتجاهل , معظم ضحايا الوضع القائم . ليس فقط أولئك الضحايا الذين لا تملك لهم أي شيء , مثل الغالبية العظمى من الفقراء و المهمشين اجتماعيا الذين سيحتفظون بنفس هذا الموقع الاجتماعي في ظل الدولة المدنية الحديثة بالضرورة , أي الخاضعة لسلطة النخبة المتلبرلة و مراكز النظام الرأسمالي العالمي , بل حتى من تتحدث عنهم كالنساء اللواتي يتعرضن للاضطهاد أو الخارجين على السائد الذين يدفعون إلى الهامش أو يعاقبون بسبب خروجهم هذا , إنها لن تتمكن حتى من تغيير واقع هؤلاء , بكل بساطة , لأن هؤلاء ليسوا قضيتها الفعلية , إن حريتهم المزعومة التي تغتصبها الأنظمة القائمة أو المؤسسات الدينية المسيطرة هي مبرر “التغيير” الذي تدعو إليه , مبرر مشروعها السلطوي “المضاد” ليس إلا , و لأن هؤلاء يحصلون حاليا بالفعل على حماية نسبية حتى من الأنظمة القائمة بفعل ضغوط إعلام النظام الرأسمالي العالمي و ربما بشكل أفضل مما يمكن للنخب المتلبرلة أن تفعله بسبب الطابع البوليسي للأنظمة القائمة . بالنسبة لمعظم ضحايا الأنظمة القائمة فهم خارج هذا التغيير المفترض , إنهم ضحايا ضروريين لأي نظام , لأية دولة بالضرورة , إلا تلك التي ستعبر مباشرة عنهم دون وصاية من أية نخبة أو طغمة مهما كان المبرر وراء هذه الوصاية . *
مازن كم الماز
* أنا لا أزعم نسبة هذه الأفكار جميعها لي , ما أفعله في الواقع هو أن أستعير تحليلات اليسار اللاسلطوي و الحركة المناهضة للعولمة الرأسمالية عن الأنظمة التي كانت تسمي نفسها اشتراكية و عن النيوليبرالية و أطبقها على نظيراتها العربية .
خاص – صفحات سورية –