الشرف الثقافي
د. طيب تيزيني
تتسع مأساة المثقف العربي، الطامح في أن يحافظ على كرامته الذاتية وعلى شرفه الثقافي، كلما تفاقمت الهُوة بين النظام السياسي القائم في بلده وبين مهمات الإصلاح والتحديث والتطوير الرابضة أمامه، فيجد نفسه بين فكَّي السلطة صاحبة القرار والساعية إلى اختراقه شراء أو بيعاً من طرف، وبين أن يعيش عيشة البهائم أو أن يغادر إلى حيث يدري أو لا يدري. بل مع الإمعان في تعميق هذه الحال، قد يجد ذلك المثقف نفسه في أيدي مَن نظر إليهم طويلاً على أنهم أعداء. وهنا تحدث الطامة الكبرى، إذ في هذه الحال، يتحول إلى صيد ثمين في نظر السلطة الحاكمة. فهذه الأخيرة التي تعيش -في أساس الأمر- ضمن تواطؤ مفتوح مع ذلك “العدو التاريخي” وإنْ على نحوٍ سِرّي خفيّ، تُنصب المحاكم لمحاكمة ذلك المثقف بتهمة الاتصال بالعدو، وتسير المسرحية المأساة، لتطحن مِن المثقفين من لا يزال يراهن على كرامته الذاتية وشرفه الثقافي.
ورغم ذلك، كان هنالك من المثقفين و(العلماء) من استغْنوا بعلمهم عن دنيا غيرهم، كما كان يقول الصوفي الزاهد وهْب بن منبه (توفي عام 114 للهجرة). إلا أن “أهل العلم اليوم فينا”- يتابع- “يبذلون لأهل الدنيا علمهم رغبة في دنياهم، وأصبح أهل الدنيا قد زهدوا في علمهم لما رأوا من سوء موضعهم عندهم”. ويخلص ابن منبه إلى التحذير: “فإيّاك وأبواب السلاطين، فإن عند أبوابهم فتنة كمبارك الإبل، لا تصيب من دنياهم شيئاً إلا وأصابوا من دينك – وكرامتك – وشرفك- مثله”! فإذا كان الأمر على ذلك النحو من المقايضة الصريحة بين الكرامة والشرف والاعتقاد، وبين “كيس من المال” وقدْر من السلامة تحت حماية ورعاية أصحاب الثروة والسلطة والإعلام والحقيقة، فإن ما يجري الآن في النظم العربية المعنية يتلخص في المعادلة التالية: إمّا انصياعُك كلياً، وإما تجفيف كل شيء في حياتك!
وقد جاءت البحوث الجديدة حول سلطة السياسي وسلطة السجّان وسلطة المعلم والأستاذ والفقيه المرتبطين بمرجعيات النظام الأمني، لتضع اليد على أن الذين ينصاعون للوْي أذرعتهم من قِبل تلك المرجعيات، يتحولون -هم في نِسب مختلفة- إلى امتدادات لها وإلى جيوب وظيفية من جيوبها، مما يمنح الرأي القائل -وفق علم الاجتماع النفسي- بأن “السجين” يتحول في ظل الظروف التي ينتجها النظام الأمني المذكور، إلى “سجّان” أكثر عتواً وهمجية من سجّانه السابق. وبهذه الكيفية وضمن كل الآليات والإمكانات والسّيولات، تتم عملية هائلة في أخطبوطيتها، هي إنتاج وإعادة إنتاج كتلٍ من الرجال والنساء فاقدي الحرية والكرامة والشرف، ولكن القادرين على تدمير قلوب وعقول مَنْ يقولون”لا”، وإن بالنيّات، التي قد كُشفت في سياق حربٍ نفسية ناجحة.
لقد انقشع الوهم القائل بأن نُظُماً عربية أو أخرى تقترف أخطاء ربما كانت كبيرة وخطيرة، ولكن ليس قصداً وتصميماً، وإنما بسبب ضعف التكوين السياسي والثقافي والتربوي، الذي تخضع له، ومن ثم فإن القائمين عليها يظلون في حالة السعي لإعادة النظر في مواقفهم عبر “إصلاحات” يَعِدون بها. وقد ظهرت هذه المواقف وغيرها في سجالات تمت بين أطراف من أصحاب القرار، وبين موظفين يعيشون تحت قبضة العوز المفتوح وقوانين لا تسمح لهم بالتعبير عن مصالحهم ومطالبهم، بقدْر أو بآخر من الروح النقدية.
ومن طرف آخر، يتضح أن لوائح حقوق الإنسان في معظم البلدان العربية قد جرى اللّف عليها وإسقاطها، في حالة تكتشف فيها، كذلك، أن “بيان حقوق الإنسان”، الذي أقرته الأمم المتحدة عام 1948، أصبح موضع مساومة مع الدول والمجموعات بحيث لم يبق منه إلا رائحة دخان تقريباً. وبهذه الصورة الفاجعة، تظهر صورة المثقف العربي في معظم تجلياته القطرية، بصيغة كاريكاتورية، من حيث هو مسخ يبحث عن خلاصه لدى غريمه القديم، صاحب السلطة والثروة والإعلام والحقيقة.
جريدة الاتحاد