صفحات سورية

أعراض جانبية

null


كثيرة هي المناسبات الآذارية التي لا تبارح ذاكرة السوريين ، فيتذكرونها همساً أو صامتين ، سواء احتفلوا بها ذاتياً أو طلب إليهم الاحتفال بها بالتسيير الإكراهي المنظم . غير أن مناسبة بعينها يتذكرها السوريون ( حكاماً ومحكومين ) كل على طريقته . ففي الوقت الذي يحيي النظام ذكرى الاستيلاء على السلطة بانقلاب عسكري صبيحة الثامن من آذار 1963 ، يتذكر السوريون بمرارة متجددة البيان الانقلابي رقم 2 الذي فرضت بموجبه حالة الطوارىء والأحكام العرفية على البلاد منذ ذلك التاريخ وبشكل مستمر إلى اليوم .

لقد بح صوت الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني وجمعيات حقوق الإنسان وهي تحذر من الأخطار الجسيمة على الحياة العامة التي يورثها استمرار العمل بتلك الأحكام ، التي وجدت أصلاً لتكون طارئة ومحددة بالمكان والزمان ، ففتحتها سلطات الاستبداد المتعاقبة على امتداد أرض الوطن وعلى طول أعمار السوريين . وسفح الكتاب والمحللون والمثقفون كثيراً من الحبر في فضح الأهداف الحقيقية لفرض تلك الأحكام خارج أي إطار دستوري وقانوني ، وبينوا آثارها المدمرة على جوانب الحياة المختلفة في البلاد ، مطالبين بإلغاء حالة الطوارىء ووقف العمل بالأحكام العرفية ، بعد انتفاء كل الادعاءات الشكلية والواهية لموجبات فرضها .

غير أن السلطة وعوضاً أن تستجيب لنداء التاريخ ومطالب الشعب ، فهي تستمر في المضي عمقاً بتطويع الناس والتحكم بمقدرات البلاد كيفياً والاعتداء على حقوق المواطنين ، بالاستناد إلى السلطات الاستثنائية التي منحتها لنفسها بالبيان الانقلابي المذكور . ومعروفة لكل عين بصيرة الأوضاع الكارثية التي تعاني منها سورية نتيجة استمرار هذا النهج على كل من الدولة والمجتمع ، وحجم التشوهات الكبرى التي اخترق بوساطتها الأحزاب والجماعات والمؤسسات الحاكمة والمعارضة على حد سواء . فعندما ينتشر السرطان في جسم ، أي خلية يمكنها أن تبقى بمنأى عن التأثيرات المباشرة وغير المباشرة له ؟ !

من جانب السلطة ( حزباً حاكماً وجبهة مشاركة ومؤسسات ) يمكن أن يتلمس المرء بسهولة آثار الشلل والعطالة والفوات التي تطبع وجود هذه التكوينات ونشاطاتها ، بل حتى في ممارسة عملها اليومي البسيط والمحدد ، لصالح الفوبيا الأمنية المنتشرة في هذه الأوساط ( بمبالغة أو من دونها ) ، بحيث صادرت الأجهزة الأمنية المختلفة أو كادت روح المبادرة وحس الواجب والمسؤولية وأشكال النشاط الذاتي ، حتى بما يتعلق بمصلحة النظام والدفاع عنه ، تاركة لها مهمة انتظار الأوامر والتعليمات والتوجيهات التي يعطيها ” معلم ” ما من مكان ما على الهاتف . فضلاً عن التشوه المرير في المنظومة الأخلاقية للعاملين في هذه الأوساط نتيجة الخوف وافتقاد القدوة الحسنة . وصار المخبرون السريون والعلنيون أكثر أهمية من ” الرفاق ” حتى القياديين منهم ، وأشد خطراً على تحديد العلاقات والمصائر لجلب المنافع أو تجنب الأضرار . وبالتالي فإن ” مفرزة المخابرات ” تستأثر بالدور المحوري في التدبير والتقرير في مختلف الشؤون ، وليست الشعب الحزبية وفروع الجبهة والإدارات والبلديات .

بالطبع يجري ذلك بسبب قدرة الاستثناء العرفي على تهشيم العلاقات الدستورية والقانونية وتقاليد العمل العام ، وتحقيق التجاوزات تحت مسميات مثل ” المصلحة العامة ” و ” الضرورة الوطنية ” وغير ذلك من تعابير التزييف والتعمية التي تحاول أن تموه الأهداف الحقيقية لهتك الحقوق الدستورية وسيادة القانون .

في ظل وضع كهذا ، يعرف الجميع أن كل شيء أصبح ممكنأ ، بغض النظر عن مدى فجوره وبجاحته ومخالفته لأبسط القواعد . وبالمقابل يمكن أن يصبح أي شيء غير ممكن حتى ولو سندته المواد الدستورية والحجج القانونية والمطالعات النزيهة للاختصاصيين . وبذلك انقلب العمل العام إلى مظهر شكلاني ، يستهدف نيل الرضا وتحقيق الحماية الذاتية ، وليذهب بعدها كل شيء إلى الجحيم .

إلا أن أخطر تشوه يصيب أصحاب السلطة في ظل الأحكام العرفية يتمثل في وهم العبقرية وجنون العظمة وادعاء التفرد الاستثنائي الذي يتسرب إلى نفوسهم ولغتهم وأساليب عملهم ، بغض النظر عن مكان وجودهم في أسفل هرم السلطة أو في أعلاه ، وذلك نتيجة النفاق والتملق والمديح الرخيص الذي يلاقونه من محيطهم الخائف والمخادع والمزيف . فيطربون لأصواتهم منخدعين بالتصفيق المجاني والتهليل الفارغ ، بعد أن انعدم من حولهم التحليل الصادق والرأي الحر ووجهة النظر الأخرى نقدية كانت للتصويب أم بديلة للتغيير . فصدقوا أن الحقيقة طوع بنانهم ، وأن التاريخ رهن إشارتهم . ولطالما أوقعهم هذا الوهم ، وأوقع البلاد معهم في شر أعمالهم .

وعلى الضفة الأخرى ، في الأوساط الشعبية والمعارضة على وجه الخصوص ، لا تخلو الحياة وأساليب العمل من تشوهات ناتجة عن استمرار الأحكام العرفية ونتائجها المدمرة لأكثر من خمسة وأربعين عاماً متوالية .

فمن رهاب الأمن والمخابرات والأجهزة الذي يتحسب له كل فرد في حياته ، ويحكم علاقاته مع الآخرين حتى لو كانوا من أقرب المقربين . فتكثر التهم والشكوك والاتهامات المضادة ، وتنعكس على العلاقات والعمل تعثراً وجموداً وانعدام ثقة ، دون أن تستند دائماً إلى الحقيقة من وقائع صادقة ودلائل واضحة وموثوقة .

إلى التعود على العمل السري والاستئناس له ، وكأنه الأصل في الحياة العامة . وهو يحمل ما يحمل من قصور وثبرير للعجز وبطء في الإنجاز . مما يفقد العاملين والنشطاء مع الزمن الأهلية اللازمة والكفاءة المطلوبة للعمل العام الحر والمفتوح ، ويضيع فرص التراكم في معارف وخبرات الأفراد والجماعات ، وإمكانية تأسيسها وتصويبها وتطويرها والبناء عليها . وهذا ما يفسح في المجال لإنتاج مناضلين مزيفين وبطولات خرقاء ، تأخذ الحقيقي بجريرة المزور .

أما العطب الكبير الذي ينال من العمل المعارض في هذه الظروف فيتمثل بالجهوزية الدائمة لتبرير مجانبة الديمقراطية وتكليس البنى والأساليب على الرتابة والمألوف ، وتعليق أسباب ذلك بعنق ” الظروف الخاصة ” أو ” الحالة الأمنية التي لا تسمح ” ، إلى ما هنالك من أعذار وتبريرات تكون صحيحة أحياناً وغير صحيحة ومبالغ فيها في أحيان أخرى .

من هنا ليس غريباً أن يتذكر الشعب السوري والمعارضة الديمقراطية منه ذكرى فرض الأحكام العرفية بمزيد من التصميم على وقف العمل بها وإطلاق الحريات العامة . وليس من الغريب أيضاً أن تستعيد السلطة هذه الذكرى لمحاولة تأبيد حالة الطوارىء والتمتع بـ ” ثمراتها ” و ” إنجازاتها ” ما أمكن ذلك .

16 / 3 / 2008

هيئة تحرير موقع الرأي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى