احتفالية ثقافية وقمة عربية في دمشق…لكن “ليس لدى الكولونيل من يراسله”
حدثان عربيان بارزان يُفترض بدمشق أن تنشغل بهما هذه السنة: الأول هو كونها عاصمة للثقافة العربية عام 2008، والثاني القمة العربية المنتظر انعقادها في التاسع والعشرين من شهر آذار. نظرياً ستكون دمشق العاصمة السياسية والثقافية للعرب خلال هذه السنة، تستضيف فيها أشقاءها، يتمثلون فيها وتمثلهم. كما يفترض بها أن تكون فرصة للثقافة السورية كي تستفيد من حضور المثقفين العرب وغيرهم، تغتني بهم، وتقدّم نفسها لهم. وإذا أضفنا إلى الافتراضات السابقة ما تتغنى به أدبيات الحزب الحاكم، من أن دمشق قلب العروبة النابض، لوجب علينا أن ننتظر سنة حافلة و”نابضة” أكثر من المعتاد، ولربما بما يفوق قدرتنا على التحمل.
لا تبدو دمشق كمدينة تحتفي بحدث استثنائي، فيما عدا بعض لوحات الإعلانات الضوئية التي حملت أشعاراً تتغنى بها، ويبدو أن الذين قاموا بانتقاء الأشعار فعلوا ذلك على عجل، وبلا تدقيق في المعاني أو توقيتها. فمثلاً نقرأ على إحداها بيت سعيد عقل “قرأت مجدك في قلبي وفي الكتب.. شآم ما المجد أنت المجد لم يغب” فنشعر فوراً بالأسى على زمن مضى. وفي المقابل نستبعد القصد الماكر في أن يحمل بعض هذه اللوحات بيت أحمد شوقي: “سلام من صبا بردى أرق.. ودمع لا يكفكف يا دمشق“.
يعبّر البيت السابق عن واقع الحال أكثر من البيت المنتقى لسعيد عقل، فثمة في الواقع أكثر من سبب راهن للبكاء، مع أن أحمد شوقي لم يقرأ وقائع المؤتمر الصحافي لوزير الإعلام السوري، بتاريخ 30/1/2008، الذي يؤكد فيه أن “القمة العربية ستكون محطة هامة لكي تلعب سوريا دورها لرأب الصدع العربي وتثبيت قواعد التضامن العربي”!. ومن جهة أخرى، وفي المؤتمر “نفسه” يقول الوزير “ذاته”: من لا يحضر القمة من الزعماء العرب فهذه مشكلته!. إشارات التعجب من عندنا في المرتين، لأنه يصعب على القارئ فهم دور سوريا في رأب الصدع العربي، على الرغم من وقوعها على خط الصدع تماماً، وفي الوقت نفسه الردّ بازدراء على أي زعيم عربي يقرر عدم حضور القمة، إلا إذا كانت إشارة الوزير هجوماً استباقياً على زعماء عرب يشك في حضورهم القمة، فسيادته لم يستخدم عبارات دبلوماسية من نوع “سنأسف إن تغيب البعض..”، وربما كان يستكثر الأسف، ولو على سبيل المجاملة، ولا يرى بأساً في أن نردد مع شوقي “ودمع لا يكفكف يا دمشق“.
في سياق متصل، إن حصل ما لا يخشاه الوزير وتغيب زعماء لدول عربية محورية عن القمة، حينها ستكون القمة تعبيراً عن العلاقات السورية العربية، وأكثر من هذا ستكشف القمة ما يمكن إخفاؤه مداورة، أو مجاملة، بلا قمة. وحتى الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى، بخلاف عادته، لم يُظهر حماساً للقمة، ولم يعلن عن توقعات منها، “ربما هذه مشكلته أيضاً”. وعندما يصل الماء إلى قدمي عمرو موسى فهذه إشارة فاقعة على الاتجاه الذي تسير إليه الأمور، لأن الرجل عُرف دائماً بعروبته، وقربه من الحكم في سوريا وتضامنه معه وقتَ اشتدت الضغوط الدولية على النظام، وستكون “مشكلته أيضاً” إن أحس بخيبة أمل، وهو يرى الإعلام السوري يتهجم على مبادرته في لبنان، ويصفه بالمنحاز والخارج على نص المبادرة العربية، لمجرد أن يقترح نسباً وزارية غير متساوية للأكثرية والأقلية في البرلمان اللبناني!.
لم تشأ بعض الزعامات العربية أن تسجل سابقة في إلغاء قمة عادية، أو تغيير مكان انعقادها، أو استباقها بقمة موازية، وربما كان هذا السبب وراء إلغاء قمة طارئة تم التلويح بها، ولكن شتان بين أن تكون القمة المرتقبة ورقة سياسية بيد الحكم السوري أو أن تتحول إلى مناسبة لتأكيد عزلة سوريا، ليس عن العالم هذه المرة وإنما عن محيطها العربي. وشتان أيضاً بين أن تكون القمة مناسبة حقيقية “لرأب الصدع العربي”، أو أن تكون قمة “تصريف أعمال”، ولربما كان الافتتاح الرسمي لاحتفالية دمشق، كعاصمة للثقافة العربية، يعطي إشارة مبكرة عن القمة، إذ اقتصر التمثيل الرسمي العربي بمستوى الصف الأول على الشقيقتين قطر وتركيا، مع ملاحظة تغيب إيران.
على الضدّ من السياسة بقيت الثقافة دائماً ملاذاً للحفاظ على الروابط المستديمة بين الشعوب، بل إن كثيراً من الحكومات لجأت وقت الأزمات السياسية إلى الثقافي لتحافظ على روابطها مع الآخرين، وعلى هذا كان لاحتفالية دمشق أن تشكّل مدخلاً مناسباً لمدّ الجسور، أقلّه مع المحيط الثقافي العربي، على ألا يتم التعاطي مع الشأن الثقافي أسوة بكل شؤون الحكم الأخرى، فتسود فيه المحسوبيات، وتتغلب عليه الهواجس الأمنية. وعلى ألا يتم التعاطي مع المثقفين العرب أيضاً على طريقة “من يحضر أهلاً به ومن يتغيب فهذه مشكلته”. هناك بالطبع حل أكثر سهولة أمام المسؤولين، وهو أن تتم دعوة المثقفين العرب المعروفين بصداقتهم للحكم السوري، وهؤلاء يترددون على دمشق بانتظام وبلا احتفالية، يبيعون المتلقي السوري الشعارات التي اعتاد على سماعها من وسائل الإعلام السورية. وحتى الآن لا توجد إشارات على أن الاحتفالية ستشهد تحولاً في الأداء الرسمي المعتاد، فباستثناء الزائرين العاديين لم يُعلن حتى الآن عن حضور مثقف عربي مرموق، أما ما تسرب عن دعوة مثقفين عالميين أمثال نعوم تشومسكي وإيزابيل الليندي فقد تكفل المعنيون بنفي الخبر، إذ بادر كل من تشومسكي والليندي إلى تكذيب نبأ قدومهما إلى دمشق، وبقي من اللائحة السابقة ميلان كونديرا الذي لم ينف مشاركته، على الأرجح لأنه لم يسمع إطلاقاً باحتفالية دمشق. ونستحضر هنا النداء المعبّر الذي صدر عن مجموعة من المثقفين السوريين في المنفى، أمثال صبحي حديدي وسليم بركات، حيث دعا البيان ضيوف سوريا إلى التمتع بضيافة الشعب السوري، والالتفات إلى ما يعانيه من القمع، وخاصة معاناة المعتقلين السوريين، وعلى الرغم من النوايا الطيبة وراء النداء إلا أنه قد يكون من لزوم ما لا يلزم كأن لا يأتي أحد للمشاركة.
إذا صرفنا النظر عن المشاركات العالمية والعربية في احتفالية دمشق فقد نتوقع احتفالية بمن حضر، أي للثقافة السورية، ولو لحفظ ماء الوجه. ولأن التحضيرات يُفترض أن تتم مسبقاً بما أن الأمانة العامة للاحتفالية شُكلت قبل أشهر، فقد بادر كاتب هذه السطور إلى سؤال عدد من المثقفين السوريين سؤالاً واحداً: ما الذي تعرفونه عن الأنشطة التي ستقام؟ وكانت غالبية الإجابات: لا شيء. وكأن هناك من يحرص على ألا يعرف المثقفون شيئاً، وأن تتم الأمور بسرية وبمعزل عنهم، الاستثناء الوحيد هو أحاديث متداولة عن أنشطة ألغيت، مثل مشروع ترجمة روايات سورية إلى لغات أجنبية، ومشروع طباعة مئة كتاب تمثّل حركة الشعر السوري، وقد تطول القائمة تدريجياً، لنكتشف فيما بعد أن النوايا كانت موجودة، وعلينا أن نكتفي بها. ولأن ما يشغل المسؤولين هو استكمال البنية التنظيمية للاحتفالية فقد بادر رئيس مجلس الوزراء قبل أيام فقط، أي بعد انطلاق الاحتفالية، إلى تشكيل هيئة استشارية، تضم في عضويتها مثقفين لا يُتوقع منهم أن يجدوا الوقت الكافي لينهمكوا في هذا الشأن مثل أدونيس.
ودمع لا يكفكف يا دمشق، يحقّ لنا أن نتألم على دمشق عندما تتعرض لهذه المهانة، وليس من مهانة أكبر من تحولها إلى مدينة معزولة، وهي واحدة من أقدم المدن المأهولة، ومن أعرق العواصم، عبر التاريخ. أن تظهر دمشق خاوية في احتفالية للثقافة، فهذا لا يليق بها أو بمثقفيها. قد نجد بعض العزاء في أن الأشقاء يعرفون حال الثقافة السورية الموزعة بين منفيين في الخارج ومنفيين في الداخل، لكن بعض العزاء لا يكفي حتى إن اقترن مع حضور قامة سامقة مثل السيدة فيروز، ولعله من المخجل أكثر أن تأتي السيدة فيروز ضمن هكذا احتفالية، فمجيئها وحده، وفي أي وقت، يجب أن يكون احتفالية لا تُسجّل كإنجاز لأحد سواها. وبالعودة إلى نداء المثقفين السوريين: من المفهوم أن يحسوا بالألم عندما يأتي الأشقاء أو الأصدقاء إلى دمشق، فيمنحون شرعية لمن لا شرعية له، ومن ناحية أخرى هناك ألم أن تكون في مكان لا يأتي إليه أحد.
تنويه: الروائي الكولومبي غابرييل غارثيا ماركيز غير مشارك في احتفالية دمشق، فقط تمت استعارة عنوان روايته “ليس لدى الكولونيل من يراسله” للمناسبة.
خاص – صفحات سورية –