لكن القمع ليس نائماً
كانت المرأة نائمة، حاولتُ ايقاظها، اقتربتُ منها وهمست، انشقّت اهدابها قليلاً، ورأيت ما يشبه ابتسامة ترتسم على شفتيها، ثم برمت ظهرها وعادت الى النوم.
حاولتُ ان احكي معها من جديد، كي استمع الى رأيها في الموضوع، لكن أبطال الروايات لا يتكلمون الا في الكتب. لم أقرأ في حياتي تصريحاً لبطل رواية، فالأبطال الحقيقيون يختفون في الكلمات، ولا يحبّون الاعلام، ويتركون للقارئ حرية تأويلهم وتأويل آرائهم ومواقفهم.
رغم اني اعرف ذلك، فقد غامرتُ وحاولتُ إيقاظ ميليا من النوم، قلتُ إني لا أستطيع التعليق على قرار الرقابة المصرية مصادرة “كأنها نائمة”. فنحن ننتمي الى ثقافة خفرة، ترفض الكلام عن الذات. قلتُ أذهب الى ميليا وأخدعها، أوحي اليها أن السؤال جزء من مناخات الرواية، وأتركها تحكي، فتكون بذلك أول شخصية روائية تقاوم الرقابة.
اقتربتُ منها، كان شعرها الأسود الطويل يرتمي على المخدة، وعيناها تستسلمان لمنامات لا تنتهي، وقمر فضي صغير يتسلل من النافذة، ويضيء الغرفة بالظلال. انحنيتُ وهمستُ باسمها، مثلما كنت افعل كل يوم صباحا حين أعود الى كتابتها، رأيتُ ابتسامتها مرسومة بالضوء الفضي، اقتربتُ منها وبدأتُ أقرأ هامساً الخبر كما نشرته الصحف. قرأتُ اسماء روايات ميلان كونديرا، واسم تشي غيفارا، واسمَي الصديقين عصام محفوظ وعلوية صبح، ثم حين وصلتُ الى اسم روايتها، اغمضت عينيها، وادارت لي ظهرها.
فهمتُ انها لا تريد ان تستمع الى المزيد، لكني بدلا من ان انسحب، مثلما كنت افعل، حين ألاحظ انها لا تريد الذهاب الى لحظة معينة انزلقت اليها الكتابة، ذهبتُ الى الطرف الآخر من السرير، وندهتُ اسمها، واعدتُ على مسامعها الخبر، فغطّت وجهها بالحرام، وبرمت من جديد.
كان عليَّ ان انسحب، فهذه المرأة التي سحرتني طوال ثلاثة اعوام، علّمتني ان القاعدة الذهبية للحب هي الاكتفاء من الحب بالحب. انسحبتُ معلناً فشلي، وعدت الى التأويل كأيّ قارئ عادي.
فهمت من الحرام الذي غطّت به وجهها انها لا تبالي، وفهمت انها ادارت ظهرها كي تقول ان هذا الزمن الأسود لا يعنيها، وفهمت من صمتها انها تعلن احتقارها لهذا الانحطاط الذي تسقط فيه العرب.
غادرتُ الغرفة بهدوء، مشيتُ على رؤوس اصابعي كي لا اوقظ المرأة النائمة، وحين وصلتُ الى الباب التفتُّ، فرأيت هالة من الضوء تغطي وجهها، ورأيتُ تاجاً من النور على شعرها المنسدل، فهمستُ لها اني احبّها.
2
في متحف “الباريو” في نيويورك، معرض استعادي للفن المفهومي في اميركا اللاتينية. وسط عروض الصور والتجهيزات والفيديو، وقفتُ مشدوها امام صور لتجهيز ارجنتيني عنوانه “معبد الكتب- تحية الى الديموقراطية”، صنعته الفنانة مارتا مينوجين عام 1983 في حديقة عامة في بوينس ايريس. التجهيز كناية عن هرم من الكتب غُطّيت بالبلاستيك.
جمعت الفنانة مع مساعديها مئات الكتب التي منعتها الديكتاتوريات العسكرية في بلادها، وصنعت منها هذا المعبد الحديث، الذي يشبه المعابد اليونانية. عُرض التجهيز لمدة ثلاثة اسابيع في الحديقة العامة، ثم سُمح للجمهور بتفكيكه واخذ الكتب.
لم نر من التجهيز سوى الصور، مئات الأشخاص يقفون امام قاعدة المعبد، ينظرون الى الأعلى، ويتأملون بخشوع معلما ثقافيا صنعه الكتاب معلنا انتصاره على الرقابة.
في اللحظات الأخيرة من حياة هذا التجهيز، يهجم الجمهور على المعبد، يفككه، ويعلن عودة الكتاب المصادر الى القارئ، مالكه الوحيد.
اعادني هذا التجهيز المدهش الى بلادي، والى مصير الكتاب فيها. ففي القاهرة، حيث تصادر الكتب في معرض الكتاب و/او تمنع، فإنهم لا يقيمون معرضا للكتاب، بل يقيمون معرضا للقمع.
ماذا لو جاء فنان عربي واقام هرما كالمعبد الارجنتيني؟
الفنانة الارجنتنية لم تصنع معبدا للقمع، بل صنعت مشهد الناس وهم يقومون بتفكيك المعبد والاستيلاء على الكتب.
هل علينا نحن العرب، كي نحتفل بالكتاب ان ننتظر سقوط الديكتاتورية، ام ان الاستيلاء على الكتب ومنع المنع سوف يكون طريقنا الى الحرية؟
لن اسأل طه حسين، فعميد الأدب العربي يشعر بالحزن والعار، لا لأن الرقابة صادرت كتابه “في الشعر الجاهلي”، واحالته على المحاكمة في زمن مضى، بل لأن الجهل والعته يلاحقان صاحب “الأيام” اليوم، حيث ينتقم الغباء والضعة من الأدب والادباء، وحيث يتم حذف مقاطع من “الأيام” كي لا تخدش حياء من لا حياء له.
وقفتُ امام معبد الكتاب الأرجنتيني كالواقف على اطلال تاريخه. هل يريد نظام القمع العربي ان يقول لنا ان الكتاب صار جزءا من اطلالنا؟
3
ولأن الشيء بالشيء يُذكر، كما قالت العرب، فإن الحديث عن منع الكتب، يذكّرنا بالحديث عن الكتّاب انفسهم. بعض الأنظمة العربية تمنع الكتاب وبعضها الآخر يقمع الكتّاب، وبعضها الثالث يقمع الكتّاب والقراء معاً.
لا استطيع ان انسى المشهد، مثلما وصفه شهود عيان. ميشال كيلو وأكرم البني ورفاقهما من خيرة الكتّاب والمثقفين السوريين، يساقون الى التحقيق مكبّلين بالأصفاد، كالمجرمين.
سجناء الرأي الذين قالوا كلمة حق في وجه السلطان، يصفدون بالأغلال. ذنبهم الكلمة، وخطيئتهم الحرية.
رياض سيف، المصاب بالسرطان، والذي وقّعت العرائض في كل انحاء العالم، من اجل الضغط على النظام في بلاده، كي يسمح له بالسفر للعلاج. رياض سيف يلقى في السجن وينام على البلاط العاري وسط هذا البرد الشديد.
لا يكتفون بقمع الكتب، بل يقمعون القراء ايضاً، ويريدون قتل الكتّاب ايضاً وايضا. ومع ذلك يقيمون معارض للكتاب، ويسمّون مدنهم عواصم للثقافة!
الياس خوري