الطائفية والوطن والمواطنة
حسين العودات
تفشى الفكر الطائفي في بلدان عربية عديدة، وصار هذا الفكر هو المرجعية والمعيار لسلوك الفرد تجاه الآخر، وتجاه المجتمع والدولة ونظام الحكم والسياسة المحلية والإقليمية والدولية، ورافقه تجاوزات (بالفكر والسياسة) تتخطى الثوابت الوطنية، والمفاهيم الأخلاقية والقومية والتعايش بين أبناء الشعب الواحد، وغدت الأفكار الطائفية (والخلافات الطائفية) تحتل الأولوية الأولى في سلم اهتمامات الفرد والجماعة في بعض المجتمعات العربية.
وأدى بعض هذه الخلافات إلى حمل السلاح والقتل والترحيل، وهدم البيوت، وارتكاب المعاصي والآثام، وانقسمت بعض المجتمعات انقساماً عمودياً حسب الطوائف، وغابت مرجعية الدولة الحديثة الرئيسة أعني مرجعية المواطنة، وتضاءلت مع غيابها مفاهيم المساواة والعدالة والحرية على النطاق الفردي، ومفاهيم الديمقراطية وتداول السلطة وفصل السلطات على النطاق المجتمعي والسياسي.
وفي الخلاصة وجدت هذه المجتمعات المبتلاة بالطائفية نفسها على أبواب تدمير ذاتي، يتأسس على إنكار القيم العليا الدينية والأخلاقية والوطنية وقيم التعايش المشترك أو تجاهلها أو تناسيها كلياً، أو استبدالها بالغرائز البدائية.
والملاحظ أن هذه التناقضات والخلافات والصراعات تتواجد بالدرجة الأولى بكثافة في بعض المجتمعات العربية دون غيرها، مما يكاد يوحي للدارس وكأنها خصوصية عربية، ويصبح التساؤل مشروعاً عن أسباب انتشار الأفكار الطائفية في المجتمعات العربية أكثر من غيرها، وأسباب استيقاظ هذه الأفكار في العقدين أو الثلاثة عقود الأخيرة، حتى كادت تصبح هي التناقض الرئيس بين شرائح هذه المجتمعات، أكثر من تناقضها مع العدو الخارجي.
وتحولت الطائفية من قناعات فردية إلى مواقف فئوية، ثم إلى ظاهرة عامة (طامة) يخشى من تفاقمها أكثر فأكثر، وستكون ـ لو حصل هذا ـ قادرة على إحراق الأخضر واليابس، أي على خلخلة النسيج الاجتماعي، وتدمير العيش المشترك، وتمزيق علاقات أبناء الوطن الواحد وشرذمتهم، وتركهم نهباً للغرائز والأفكار البدائية والقيم المنحطة واستسلامهم لمن ينفخون في نارها التي لا ترحم.
إذا أردنا القول الصريح، وهذا ما يقتضيه الواجب الوطني والمسؤولية الوطنية، فإن مفهوم الوطن الذي لا يزيد عمره على مائتي سنة (منذ الطهطاوي والتونسي) مفهوم عليل في البلدان العربية، ذلك أن أهم التيارات السياسية لم تعط لهذا المفهوم معناه المعاصر، ومصطلحه المتعارف عليه عالمياً كأرض لدولة ذات سيادة، ولشعب يعيش عليها متكاتفا بالسراء والضراء، ومحيط جغرافي يتفاعل فوقه ومعه أبناء المجتمع ويعيشون في كنف ثقافة موحدة وتاريخ مشترك.
فقد كان هذا المفهوم المتفق عليه من مجمل دول العالم وتياراتها السياسية غير مقبول في البلدان العربية، فالتيارات الإسلامية التي نشأت وتطورت في القرن العشرين، رفضت مفهوم الوطن بهذا المعنى لأن الوطن عندها عقيدة بالدرجة الأولى، ولم تشترط وحدة جغرافية، أو لغوية أو ثقافية أو إثنية أو غيرها، واكتفت بوحدة العقيدة الدينية لسكانه، واعتبرتها رابطة وطنية كافية.
أما التيارات القومية العربية فقد رأت أن الوطن ليس هو الوطن القطري، الذي تقوم فوقه دولة ذات سيادة ويسكنه شعب يعيش تحت شروط عيش موحدة سياسية وقانونية واقتصادية واجتماعية، وإنما هو الوطن العربي الكبير الذي سيقوم يوماً ما، وتتشكل فوقه دولة الوحدة، وهكذا أيضا بقي مفهوم الوطن متخيلاً غير محسوس، أمراً نظرياً أكثر منه واقعاً قائماً، وبدوره لم يدخل هذا المصطلح بمعناه الذي يجب أن يكون عليه في ثقافة الناس، ولم تُحطه مشاعرهم بالتفاعل معه وبرعايته.
وكانت ثالثة الأثافي في البلدان العربية التيارات السياسية والأيديولوجية الأممية، التي اعتبرت الوطن هو التضامن الأممي، وهي بدورها حولته إلى مفهوم غامض غير محسوس، لم يدخل في الثقافة ولم يتفاعل الناس معه حسب معناه هذا، وبالمحصلة بقي مصطلح الوطن ومفهومه بالنسبة للعربي مختلفاً عن المفهوم نفسه لدى الشعوب الأخرى، التي اعتبرت أن دولتها تسود وطنها، وأن وطنها هو موئلها النهائي من حيث المبدأ، ينبغي التفاعل معه سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وروحياً.
لم يكن مفهوم الوطن هو المفهوم الوحيد الغامض والغائب في ذهن أبناء المجتمعات العربية، بل كان مفهوم الدولة الحديثة غائباً أيضاً، فمازالت دولتنا العربية تحمل صفات ومكونات ومفاهيم وقيم الدولة في التاريخ العربي في العصر الوسيط (دولة الخلافة أو دولة الأمة دولة الحاكم والرعية).
ولم تؤمن بعد بمفاهيم الدولة الحديثة وعلى رأسها مفهوم المواطنة كمرجعية واحدة وحيدة لجميع من يعيش على أرض الوطن وفي كنف الدولة. ومفهوم أن الدولة الحديثة هي دولة المواطن الفرد الحر، لا مكان فيها لأي مرجعيات أخرى غير مرجعية المواطنة.
وبسبب غياب هذا المفهوم تضاءلت مرجعية المواطنة وتقدم غيرها، ووجدت الطائفية أنصاراً وأعواناً وفلاسفة ينفخون في أبواقها ويوقدون نارها فتقدمت، وزورت، من خلال تأثيرها في الغرائز، أذهان الناس وأفكارهم ووعيهم، وغدت وكأن الناس خلقوا من أجلها، واختلط الرئيسي بالثانوي، والقمح بالزيوان، ووقعت الأمة والمجتمعات و(الأوطان) في ظروف صعبة لم تستطع حتى الآن الخروج منها.
تواجه المجتمعات العربية الآن آفة الأمية (مئة مليون أمي) والفقر (سبعين مليونا دون خط الفقر) والمرض (يكاد التأمين الصحي لا يطبق إلا في عدد محدود من البلدان العربية) والصعود المتسارع للإرهاب والجهل والتخلف الاقتصادي والاجتماعي، وتواجه في الوقت نفسه العدوان الصهيوني الدائم، والعداء الأوروبي والأميركي.
وقد تناسى الطائفيون كل هؤلاء الأعداء، وغرقوا في السعار الطائفي وأعطوه الأولوية، ونتساءل بعد هذا ومع هذا، ما هو مستقبل الأمة ومجتمعاتها وأفرادها وقيمها وثقافتها ولغتها ودينها وأخيراً وجودها المادي نفسه، إذا بقيت مفاهيم الطائفية والوطن والمواطنة على ما هي عليه الآن؟.
البيان