حان الوقت: على السلطة الفلسطينية مقاطعة السياسة
نهلة الشهال
قد يسر السيد عبد ربه بالجواب الأميركي على تصريحه: قال له الناطق باسم الخارجية، السيد كراولي، إن كلامه هو «بالتحديد نوع الحوار وتبادل الافكار المطلوبان».
ثمة خطر من أن يظن الرجل نفسه عبقرياً مثلاً، أو أن يكتفي من الدنيا بنجاحه في أداء وظيفته. فهو من صنف انتشر في الفترة الاخيرة في العالم العربي (وربما في العالم على الإجمال، ولكن تأثيره على المستوى العام يبقى غير ذي بال)، صنف أتى إجمالاً من الاوساط اليسارية، وأحياناً من الاوساط الاسلامية، وراح ينظّر لتجاوز التابوهات، بوصف هذه الاخيرة تجسيداً للتخلف، ويعتبر كل كلام في الأسس والمبادئ والقيم… لفظية بدائية ينبغي الاسراع بالتخفف منها إذا شئنا «الالتحاق بالعصر»، معرفاً إياه كما يشتهي، مازجاً بين ادعاء تكنوقراطي في السياسة ـ «الخبراء» ـ وبراغماتية مفتتنة بالغرب مهما فعل. هؤلاء مثلاً ارتضوا الحضور على ظهور الدبابات الاميركية الى العراق، واعتبر واحدهم بول وولفوفيتز، الصقر المحافظ الجديد، وهو نفسه يساري سابق، اعتبره «رائياً». تلك هي العائلة التي ينتمي اليها السيد المتعالي عبد ربه. ومن المدهش أن يُكتفى منه بتراجعه المائع وقوله إن صحيفة «هآرتس» لم تفهم عليه! تصرف مألوف يسمونه عادة بالون اختبار، أو تمهيدات أو تأهيل نفسي، الى آخر الاحتمالات. لا سيما أن رئيسه سارع في اليوم التالي الى التأكيد على تصريحات قديمة له تقول حرفياً إن «موضوع يهودية دولة اسرائيل ليس من شأننا». من شأن من هو إذاً يا قوم؟
تقوم الاستراتيجيا الاسرائيلية، ومعها الاميركية والاوروبية، على تفكيك الموضوع الفلسطيني ليصبح عدة ملفات، واحد عنوانه الوضع في الضفة الغربية وآخر غزة وثالث القدس ورابع اللاجئون، وخامس يتعلق بـ«تبادل الاراضي» ـ وهو يخفي في طياته موضوع فلسطينيي الداخل تماماً مثل مسألة يهودية الدولة إذا تركنا البراءة المصطنعة جانباً ـ وسادس متعلق بالامن، وسابع بوضع غور الاردن وهكذا… يسمون ذلك التفاوض المتدرج واتباع المرحلية. وهو لكان يصح لو أن الطرف الفلسطيني المفاوض يبقى ممسكاً بالافق الاستراتيجي لما يريد فيما هو يساجل ويناور ويقرر تنازلات هنا وهناك. هذا من بديهيات السياسة، فوحدهم المجانين يدعون الى الانقطاع التام عن مبدأ التفاوض كأداة… الطرف الاسرائيلي يجيد تطبيق هذا الامساك بالافق، وذلك على رغم التنويعات في الاسلوب.
المشكلة أن سياقاً متكاملا ـ وليس فحسب أهواء ذاتية منحطة، أو قصوراً يخص هذا أو ذاك ـ جعل الطرف الفلسطيني يخرج عن الاصول تلك ويستمر في التفاوض بلا بوصلة، أو ما يقال له المرجعيات والثوابت وبناء إجماع وطني. هناك نُظمة (أو «سيستيم») بُنيت على مدى عقود، كان آخرها منذ توقيع اتفاقيات أوسلو، وهذه النُظمة متكاملة (لذلك هي «سيستيم» وليست شيئاً عارضاً أو مضافاً)، يتراصف فيها السياسي والأيديولوجي وإن كان تبريرياً، والمصلحي، والامني، والروابط الواقعية التي تنشأ كل يوم. وقد ساهمت النخبة السياسية التي سيطرت على منظمة التحرير في بناء هذا «السيستيم» وهي عاجزة اليوم تماماً عن الانفكاك عنه. بل هي أسرت الى حد ما المجتمع الفلسطيني نفسه في آليات اشتغاله. خذ مثلاً موضوع المساعدات الدولية منذ أوسلو، التي تعفي الاحتلال الاسرائيلي من تبعات وواجبات يقول القانون الدولي إنه مسؤول عنها حيال الذين يخضعهم لاحتلاله. هذه المساعدات أدت الى نشوء شريحة اجتماعية متميزة، يزداد تميزها كلما اقتربت من السلطة نفسها وكلما اقتربت من الاحتلال، ولكنها أيضاً نظمت توزيع الفتات على الناس المتروكين في وضع مختنق وبلا أفق، بحيث يصبح تفكيك السلطة كمرجع لتلقي هذه المساعدات خياراً مرعباً يناهضه الناس الذين يتهددهم الجوع، كما يناهضه آلاف من البشر الذين بنوا مؤسسات للمجتمع المدني تتلقى مساعدات مقابل برامج تأهيل كان يفترض بالاحتلال الوفاء بها، وبالطبع يناهضه ارباب السلطة الذين اغتنوا بفضل هذه المساعدات وبفضل تحولهم الى وعاء لاستقبالها، بل وتوزيعها، فيستقون قيمتهم المادية والرمزية من دورهم ذاك، كما من توسطهم مع الاحتلال في كل شأن يخص الحياة اليومية للناس على تعدد فئاتهم. والأخطر أن مفتاح تدفق هذه المساعدات يبقى في الايدي الاجنبية تلك التي يمكنها في اي وقت خفض بل وقطع انسيابها للضغط على السلطة نفسها، أو على الناس. وهذا مثال من بين سواه، وبعض سواه أخطر، كمسألة التنسيق الامني التي تحولت تواطؤاً مع الاحتلال يصل الى حد تنفيذ عمليات مشتركة. ومن فعل يوماً سيصبح إذا ما تم الرجوع عن شرعية هذه الآلية… عميلاً وقاتلاً لإخوانه، بكل بساطة.
يقول أرباب السلطة في كل حين: كفاكم كلاماً عمومياً ومبدئياً وأخلاقياً، نحن في ورطة فهاتوا حلولاً واقتراحات ملموسة. ولكنهم كمن يقول ذلك احراجاً للأصوات المنتقدة وليس إدراكاً حقيقياً بوجود ورطة. على كل حال، هاكم اقتراحاً عملياً تفصيلياً ومحدداً، ينقل الكرة حقاً وليس وهماً إلى الملعب المقابل: ان تعلن السلطة أن التفاوض وفق هذه القواعد وصل الى طريق مسدود بسبب التعنت الاسرائيلي (رجاء لا تخافوا من واشنطن: هي بحاجة لأي صيغة وستتعامل مع هذه ولو بعد غضب!)، وأنها بالتالي لم تعد الجهة الصالحة للاستمرار به، وأنها منذ اليوم ستتولى فحسب المهمة البيروقراطية والتكنوقراطية المتمثلة بإدارة الحياة اليومية للضفة الغربية، على أن يلتئم مجلس تأسيسي وطني يضم كل أطياف الشعب الفلسطيني ومكوناته الجغرافية والسياسية على السواء، يعمل على إعادة تعريف الثوابت الفلسطينية التي لحق بها اضطراب وتشويش كبيران نتيجة التخبط الحاصل منذ سنوات، وإن المهام السياسية معلقة بانتظار ولادة قيادة تلتزم بالاجماع الذي سيتبلور، وفي الاثناء، فعلى الامم المتحدة أن تلزم اسرائيل بمسؤولياتها كقوة احتلال، وأن تشرف على ذلك.
هناك عدة تنويعات على المقترح، تستلهم الخيال السياسي المطلوب شحذه والمعطيات الواقعية. ما المرعب في الامر؟ اقصد بالمقارنة مع الوضع غاية في السوء القائم حالياً، وليس من وجهة نظر أصحاب الامتيازات المتنوعة التي نشأت على اساس التخصص بإدارة هذه العملية، المدعوة سلمية، بهذه الطريقة «السينيكية» البائسة. عندها سيمكن استعادة الطابع النضالي للقضية الفلسطينية وتحفيز أشكال متنوعة من التأييد والتضامن، ومن قدرة الشعب الفلسطيني نفسه على الصبر والتحمل والصمود.
المشكلة التي يجب على أرباب السلطة وعيها أن خيارهم القائم حالياً لم يعد واقعياً البتة، وأن مثل هذه المقترحات هي اليوم الاتجاه الواقعي، إلا إذا كان الامر يتعلق بمن يجرؤ على توقيع وثيقة الاستسلام.
السفير