في انتظار الانفجار
الياس خوري
لا يسع المراقب سوى ان يصاب بالحيرة وهو يتابع الكلام الذي يصاحب هذه المرحلة من الصراع العربي- الاسرائيلي، وخصوصا في اطار الصراع على المفاوضات بين السلطة الفلسطينية والحكومة الاسرائيلية.
وزير الخارجية الاسرائيلية يعلن من على منبر الأمم المتحدة قرار الترانسفير، او ما اطلق عليه اسم تبادل السكان والأراضي. نتنياهو يطالب الفلسطينيين بالاعتراف بيهودية الدولة العبرية كشرط لايقاف الاستيطان، قانون الولاء يقرّ في الحكومة الاسرائيلية، وهو يدعو الى قسم ولاء لاسرائيل باعتبارها دولة يهودية وديمقراطية. السلطة الفلسطينية مرتبكة امام الحيل الاسرائيلية التي تعلن بوضوح رفض اسرائيل للسلام، تصريحات متناقضة تصدر من هنا وهناك، يتم نفي بعضها وتناسي بعضها الآخر، وبلبلة لا مثيل لها تحيل كل كلام في السياسة والمفاوضات والسلام الى لغو وعبث.
نستطيع الدخول في تفاصيل كل مطلب او رأي على حدة، بعضها يثير الاستهجان، وبعضها الآخر يثير القلق والخوف، لكن الجديد هنا هو ان تطلب اسرائيل من ضحاياها الفلسطينيين اعترافا بيهوديتها! وعلى الرغم من ان هذا المطلب ليس سوى حجة من اجل تفجير المفاوضات، فانه يقدم دليلا على ان القوة المفرطة لا تعطي شعورا كافيا بالثقة بالنفس. هذه المفاوضات كانت بلا افق منذ البداية، فكي تكون هناك مفاوضات مثمرة بين طرفين يجب ان يتوفر واحد من شرطين:
الشرط الأول هو استسلام طرف لطرف، بحيث يملي المنتصر شروطه على المهزوم. هذا الوضع تحقق جزئيا في اتفاقات اوسلو، لكن المنتصر الاسرائيلي عجز عن اجبار الطرف الفلسطيني على الموافقة على شروطه، لأن شروطه تتضمن الغاء كاملا للطرف الآخر ومحوا منهجيا لوجوده وذاكرته. اي ان اسرائيل قالت انها ترفض استسلاما فلسطينيا، بل تريد استسلاما من دون ان تضاف اليه كلمة فلسطيني، اي تريد من الفلسطينيين الامحاء والتوقيع بالموافقة على نظام تمييز عنصري ونفي شامل، بعد اعطائه اسم تسوية ودولة الى آخره…
الشرط الثاني هو وجود ميزان قوى متعادل يفرض على الطرفين ايجاد صيغة تسوية. وهذا الشرط لا وجود له في ظل العجز العربي عن التلويح بحرب شاملة، تشبه حرب تشرين 1973، مما سيجبر اسرائيل على القبول بمنطق التسوية.
هذا الفراغ العربي لا يستطيع احد ان يملأه، لا ايران ولا تركيا، بل يحتاج الى عودة الى منطق الأمن القومي العربي، وهي عودة مؤجلة الى امد مديد طالما بقيت مصر في الغيبوبة والانحلال والسياسة الهرمة التي لا هدف لها سوى توريث السلطة.
في الغياب العربي، تجد ايران دورا في دعم المقاومة الاسلامية في لبنان وغزة، وتبحث تركيا لنفسها عن دور في التسوية والصراع، لكن هذين الدورين لا يزالان غير قادرين على التلويح بالحرب. ايران تدعم المقاومة كي تتجنب حربا تشنها اسرائيل والولايات المتحدة عليها، وتركيا ليست في وارد تعريض وجودها العسكري في حلف شمالي الأطلسي للخطر، او الغاء احتمالاتها الاوروبية.
في ظل غياب الخيار العسكري الذي يخلق ميزانا جديدا للقوى، فإن كل كلام عن السلام هو اضاعة للوقت. صحيح ان الفراغ لا وجود له في الطبيعة كما في السياسة، وان الاحتقان والغطرسة والتأجيل سوف تقود الى سلسلة من الانفجارات الموضعية، بعضها قد يكون وحشياً مثل حرب غزة، وبعضها الآخر قد يقود الى هزيمة محدودة لاسرائيل كحرب تموز، وقد تمتد الانفجارات لتشمل قصف المفاعلات النووية في ايران، بما سيترتب على ذلك من اهتزازات اقليمية، لكن كل هذه الانفجارات لن تقود الى تسوية سياسية تنقل المنطقة الى مرحلة تاريخية جديدة.
انها سياسة الجدار الفولاذي التي جعلها جابوتنسكي عنوانا وحيدا للوجود الاسرائيلي في فلسطين. جدار من الحديد والنار، تكون مهمته تأجيل البحث في الحقوق بشكل دائم ومتواتر، بحيث تُختصر اللعـــبة الاسرائيلية في حل يقوم على نفي الحلول.
هذه اللعبة التي قادت وتقود الى تفكيك المشرق العربي في عصبيات طائفية ومذهبية واقوامية، بسبب عجز العرب عن مواجهة متطلبات الدفاع عن امنهم القومي، لن تكون اسرائيل بمعزل عن تداعياتها. فالعيش على حد السكين، والاضطرار الى خوض حملات عسكرية دورية، واللجوء الى القمع الوحشي للسكان المحليين، كلها عناصر سوف تلعب دورها في اخضاع اسرائيل لمنطق الحقيقة التاريخية الذي يقول ان كيانا قائما على الاحتلال والقمع والقوة العسكرية معرّض للتفكك البطيء، وان اسطورة العبري الجديد التي حاولت الحركة الصهيونية خلقها ليست الا تكرارا لأنظمة فاشية وعنصرية كان اليهود اولى ضخاياها.
فلسطين اليوم في غياب الشرطين اللذين يجعلان من الكلام عن السلام والتسوية ممكنا. الحل الذي تقترحه اسرائيل هو ان لا وجود لحل. دوامة العنف مرشحة للتصاعد، والكلام يُبتذل ويستعير اللغة الفاشية. لغو بلا معنى، يعبىء فيه السياسيون الاسرائيليون فراغا ينتظر الانفجار.
القدس العربي