صفحات العالم

خمسة مرتكزات للفوضى

حازم صاغية
تعيش منطقتنا العربيّة، لاسيّما متى نُظر إليها في تداخلها مع نطاقها الإقليميّ ومع العالم الخارجيّ، ظرفاً غير مسبوق يمكن تفريعه إلى خمسة تحوّلات كبرى:
فأوّلاً، لم تكن الولايات المتّحدة الأميركيّة في أيّ زمن سابق منذ انتهاء الحرب العالميّة الثانية، بالضعف الذي هي عليه اليوم. ففي عهد أيزنهاور استطاعت أن توقف “العدوان الثلاثيّ” على مصر، وفي عهد كارتر فرضت على بيجن صيغة كامب ديفيد، وفي عهد بوش الأب قادت عمليّة تحرير الكويت، كما فرضت على الحكومة الإسرائيليّة برئاسة شامير تنازلات مرّة. أمّا اليوم، وعلى ضوء ما تكشّف من مداولات إدارة أوباما مع الحكومة الإسرائيليّة برئاسة نتنياهو، خصوصاً بالنسبة لوقف الاستيطان، فالأمر يبدو مختلفاً جدّاً.
ومردّ هذا الضعف ليس إلى الانتخابات النصفية التي تبدأ الشهر المقبل ويُرجّح أن يتقدّم فيها الحزب الجمهوريّ المعارض على حساب الحزب الديمقراطيّ الحاكم. فأهمّ من هذا تنتصب الحرب الأفغانيّة المكلفة جدّاً، وما تبقّى من همّ عراقيّ، وهو لا يزال كبيراً خصوصاً في ظلّ تقاطعه مع الهمّ الإيرانيّ ومتفرّعاته. هذا فضلاً عن الأزمة الماليّة حيث يتقدّم التعافي بطيئاً وملتبساً، وحيث لا يزال التهديد بانبعاث الركود، وربّما الكساد، سيفاً مسلّطاً على رؤوس الجميع، بينما تتضخّم قوافل العاطلين عن العمل. صحيح أنّ الرئيس السابق بوش تسبّب بالكثير من هذه العوامل، لكنّ ذلك لا يغيّر في واقع الضعف الراهن وما يترتّب عليه من نتائج.
وثانياً، لم يكن العرب، من خلال دولهم الأكبر والأكثر مركزيّة، على مثل هذا الضعف الذي يبدونه حيال الدول المحيطة بهم، أي إيران وتركيا وإسرائيل. لقد جاءت الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس الإيراني أحمدي نجاد إلى لبنان، لتعلن بالفم الملآن أنّه ما من شيء سوى الفراغ بات يقف بين إيران وإسرائيل، وأنّ الأخيرة غدت تمسك بقرار الحرب والسلم في منطقة المشرق العربيّ. وقد حصل هذا بعد انتصار سياسيّ إيرانيّ ليس قليل الأهميّة في العراق، وهو ما تجسّد في “التوافق” بين طهران وواشنطن على المالكي بوصفه المرشّح لرئاسة الحكومة الموعودة، والذي انطوى على تسليم واشنطن بموقع طهران في بلاد الرافدين، إن لم نقل بانجرارها إلى ذاك الموقع. وهذا إنّما يبدو تطوّراً خارقاً إذا ما نُظر إليه من زاوية تاريخ المنطقة، وتاريخ توازنات القوى والتحالفات فيها، أقلّه منذ الحرب العالميّة الأولى.
وثالثاً، لم تكن الدول ذاتها على مثل هذا الضعف الذي تبديه حيال المنظّمات المسلّحة والإيديولوجيّة في وقت واحد. فحركات مثل “حماس” الفلسطينيّة، و”حزب الله” اللبنانيّ، تستطيع اليوم فرض “فيتو”، لا على حكومات بلدانها فحسب، بل على معظم حكومات المنطقة. والحال أنّ هذا “الفيتو” اتّخذ في فلسطين شكل التقسيم الصريح للسلطة والشعب، فيما لا تني الأحداث تبرز الضعف الذي يلمّ بالحكومة اللبنانيّة قياساً بقوّة “حزب الله”.
والراهن أنّنا، إذا ما أخذنا في الاعتبار انفصام السلطة الفلسطينيّة، وعيش العراقيّين من دون حكومة، واحتمالات سقوط الحكومة اللبنانيّة، أمكننا الحديث عن شعوب من دون حكومات، لكنْ طبعاً ليس من دون حركات “ممانعة”!
ورابعاً، لم تكن إسرائيل مرّةً في عهدة تركيبة قياديّة يتصدّرها سياسيّ كـ”ليبرمان”، بحيث يبدو رئيس حكومة ليكوديّ مثل نتنياهو معتدلاً.
كان بيجن أوّل رئيس حكومة من خارج “حزب العمل” يصل إلى الموقع السياسيّ الأوّل في الدولة العبريّة، وهو ما حصل بنتيجة انتخابات 1977. لكنّ بيجن وقع معاهدة كامب ديفيد مع مصر. واضطرّ خلفه شامير إلى حضور مؤتمر مدريد عام 1991 والذي عُدّ التمهيد لصلح أوسلو الموقّع بعد عامين مع منظّمة التحرير الفلسطينيّة. حتّى نتنياهو نفسه انسحب من مدينة الخليل، تطبيقاً لاتفاقات أوسلو، ما اعتُبر تخلّياً عمليّاً عن مبدأ “إسرائيل الكبرى” الذي ورثه الليكوديّون. وبالتدريج، ومن خلال حزب “كاديما”، انتقل سياسيّون إسرائيليّون كأولمرت وليفني من أقصى اليمين إلى موقع اليمين المعتدل (بالمقياس الإسرائيلي طبعاً).
وفي الحالات كافّة، تبدو الآن خطوات وتحوّلات من هذا النوع أقرب إلى الخيال. فموضوع المواضيع الآن هو “تعهّد” بوقف الاستيطان لأسابيع!
وخامساً وأخيراً، وهو ما يكتسب أهميّته في ظلّ السياسات والثقافات المعولمة، أنّ مشروع بناء المجتمعات التعدّديّة في البلدان الغربيّة المتقدّمة قد آل إلى إخفاق. وهذا ما اعترفت به مؤخّراً، وبصراحة فجّة، المستشارة الألمانيّة ميركل. فما بين الصعود المتواصل للإسلام الراديكاليّ في تلك البلدان، والصعود اليمينيّ المتطرّف، فضلاً عن توسّع الحرب الثقافيّة لتشمل الديانات والرموز المقدّسة… يغدو اعتراف ميركل في محلّه تماماً.
وتطوّر كهذا مسيء، بطبيعة الحال، إلى جميع المعنيّين به. إلاّ أنّ ضرره علينا، في العالمين العربيّ والإسلاميّ، سيكون أكبر بلا قياس، أكان ذلك في بلداننا أم في المغتربات، وبمعزل عمّا إذا جاءت ترجمته في الابتعاد عن السياسة والجنوح إلى الإرهاب، أم في شيوع مزيد من الأفكار الظلاميّة والكارهة للآخر.
والعناصر الخمسة المذكورة أعلاه، وغير المسبوقة بالحدّة التي تبدو عليها اليوم، متفاوتة المصادر ومتباينة التعابير. بيد أنّها تلتقي عند رفع الفوضى إلى مصاف الحاكم الأوّل لعالمنا. فكأنّنا اليوم نعيش ذروة الانتقال عديم الوجهة من عالم الحرب الباردة، المترافق مع الدول السيّدة والسرديّات الأيديولوجيّة الكبرى، إلى الضياع الفائض.
الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى