استسلام آخر
حسام عيتاني
قبل أيام سارت إلى وسط بيروت تظاهرة لم يزد عدد المشاركين فيها على أصابع اليدين إلا قليلاً. الشعار الذي رفعه المتظاهرون كان «استعادة رغيف الخبز» الذي قررت الجهات الرسمية اللبنانية رفع سعره. ثم قطع أهالي راشيا الطريق العام قرب بلدتهم احتجاجاً على الغلاء.
والحال أن موجة ارتفاع أسعار المواد الغذائية ليست محصورة في لبنان. ففي سورية والأردن وأراضي السلطة الفلسطينية بلغ سعر البندورة (الطماطم) أرقاماً قياسية وقررت أسر كثيرة الاستغناء عن هذه الثمرة التي كانت تعتبر أساسية في مكونات المطبخ المحلي. وتقول الصحف الإسرائيلية أن ثمن الكيلوغرام الواحد من البندورة زاد على 12 شيكلاً (حوالي الأربعة دولارات ونصف الدولار). إلى جانب الخبز والخضار، التهبت أسعار اللحوم وغيرها من المنتجات الحيوانية (البيض والألبان والأجبان) في عديد من الدول العربية.
وفي ظل عجز وصمت أجهزة الرقابة الرسمية، تتراوح الأسباب المتداولة بين الصعود الكبير لأسعار القمح في العالم من 170 دولاراً في أول تموز (يوليو) الماضي إلى 301 دولار في آخره إلى الحرائق الهائلة في روسيا والمحاصيل السيئة في عدد من الدول وارتفاع الطلب لتغطية حاجات عدد من الأنحاء المنكوبة. وفي الدول العربية، يجري الحديث عن موجة الجفاف التي تجتاح مناطق المشرق منذ أعوام والتي أدت إلى هجرات كبيرة من الأرياف التي تضررت زراعتها بشدة، صوب المدن. طبعاً، لا يخلو الأمر من لمسات واضحة من الفساد والاستغلال واحتكار المواد الحيوية.
بيد أن التظاهرة البيروتية الصغيرة، تكشف حدود الاهتمام العام بقضايا الرفاه ومستوى المعيشة. والتعليقات الأقرب إلى الذهن والتي تناولت قلة عدد المتظاهرين أن هؤلاء كانوا سيعدّون بمئات الآلاف لو كان موضوع التظاهرة احتجاجاً على إهانة مذهبية أو طائفية أطلقها موتور من هنا أو أحمق من هناك، أو الانتصار لعصبية فئوية أو حزبية أو جهوية.
الخمول في تنكب مسؤولية الدفاع عن مستوى الحياة لأكثرية المواطنين العرب والاستسلام شبه الناجز أمام الغلاء والتضخم وضياع لقمة الخبز، مقابل حماسة منقطعة النظير في الاستجابة أمام السعار الطائفي والمذهبي، لا يسلطان الضوء على فرط حساسية «ما قبل دولتية» تستجيب لمطالب الانتقام والتحريض على الثأر (على طريقة الخنساء وأخيها صخر)، بل يحضان على تأمل النقص الفادح الذي تعاني منه آليات الاحتجاج على الواقع. فارتفاع سعر الرغيف يعود عملياً إلى حقيقة استيراد الدول العربية القسم الأكبر من حاجاتها الى القمح من الخارج. وتدخل عناصر الفساد والاحتكار في المرحلة التالية. وعلى غرار ما فعل الداعون الى تظاهرة بيروت، لا يقدم المحتجون تصورات واقعية لكيفية سد الثغرات التي يولدها ارتفاع الأسعار في موازنات الجهات الرسمية المستوردة، بل يستسهلون الركض نحو تحميل هذه الجهات المسؤولية عن الغلاء. وإذا كان ما من جدال في المسؤولية تلك، إلا أن الحلول الواقعية تفترض من المحتجين تقديم بدائل قابلة للتطبيق أو دفع الحكومات إلى البحث عن البدائل والحلول تلك وعدم الاكتفاء بالاحتجاج اللفظي.
لا تنتهي مسألة الاستسلام أمام تدهور الأوضاع الاجتماعية هنا. بل تبدو وكأنها ظاهرة عامة تتفشى في المجتمعات العربية التي تعاني تراجعاً في مستويات التعليم والرعاية الصحية والخدمات العامة. ويبدو أن شعوبنا لا تهتم حقاً للقمة خبزها قدر الاهتمام لتفاهات بعض الشتامين من محركي ضغائن اعتقدنا انها باتت كالرميم.
الحياة