صفحات أخرى

كتاب الأمبراطورية الأميركية، ساعة الاقتسام لفريد زكريا

هــل انــقــضــى عــهـــد الــقـــوة الــواحـــدة؟
بسطت الولايات المتحدة الأميركية لأكثر من قرن ونصف قرن نفوذها على العالم. ليست نهاية هذا الاستنفاذ قريبة أو واردة على المدى القريب. مررت تصوراتها وقيمها الثقافية، الاقتصادية، السياسية إلى مجمل رقع المعمور. غير أن هذا الاستنفاذ رافقته مخلفات وعواقب كارثية على البنى النفسية والثقافية والاقتصادية للبلدان التي طاولها التأثير أو الهيمنة. الدول التي نجحت في التنصل من قبضة الاستحواذ الأميركي، أدت ثمن عقوقها ومقاومتها بالجوع، بالحصار والتهديد المستمر. وإن شكلت الحرب الباردة أعلى مراحل الاستقطاب بين الشرق والغرب، فإن مرحلة ما بعد انهيار المعسكر الاشتراكي جاءت لتتوج بشكل سافر الاستنفاذ الأميركي، الذي تعتبر العولمة أحد تجلياته. كُتب الكثير في موضوع هذا الاستنفاذ، القديم منه والحديث، كما في مواضيع شيوع نماذجه الثقافية، الفكرية، السياسية، والاقتصادية. دراسات سياسية، سوسيولوجية، سيكولوجية، اتكأت في توجهاتها المنهجية والنظرية على هذه المدرسة أو تلك، هذا التيار السياسي أو ذاك. من بين الأسئلة الواردة في طياتها: كيف أمكن هذا البلد الذي لا تاريخ له، أن يبسط هيمنته على بلدان يضرب تاريخها في عمق التاريخ؟ ما شرعية بلد قام على هدم حضارات الآخرين؟ أليس ضعف الأمة كامناً في قوتها؟ أي مآل لمجتمع يكتفي بذاته وليست له أي رغبة في التعرف الى الآخرين؟ ألم يحن الوقت للحديث عما بعد أميركا؟ بيد أنه يجب التذكير بأن لكل نظام سياسي طابعه، وبصمته الإيديولوجية. بالقرب منا، أبان النظام الجمهوري بزعامة جورج بوش الثاني عن رغبة هيستيرية في تمتين دعائم الأمبراطورية الأميركية. وقد وقف العالم عند محصلات هذا الحلم الجنوني الاستبدادي: الخراب والمزيد من الفوضى مع تأجيج مشاعر الكراهية وإفقار الفقراء. بمجيء باراك أوباما إلى البيت الابيض، بدأ العالم يحلم بأن التغيير في الداخل وفي الخارج ممكن، وبأن ثمة تعايشاً ممكناً من نوع آخر. لكن هل أميركا قادرة اليوم على الانخراط في مشروع التقاسم، الشراكة والاشتراك، الذي تطالب به، بل تعمل به المجموعة الدولية، مخافة أن تهمش أو تفقد مبررات وجودها؟ حول هذا السؤال يتمحور كتاب فريد زكريا الأخير، “الأمبراطورية الأميركية، ساعة الاقتسام” (منشورات سان سيمون. 260 صفحة. تصدير هوبير فيدرين)
زكريا أحد الأقلام المميزة في الصحافة الأميركية. ولد في الهند عام 1964 . نشأ في سن مبكرة في مناخ صحافي وسياسي حيث كان والده عضوا في الحزب البرلماني وأمه رئيسة تحرير “تايمس أوف إنديا”. درس في جامعتي يال وهارفرد حيث تابع دروس ستانلي هوفمان. بدأ مشواره الصحافي بمجلة “فورينغ أفيرز”. علاوة على كونه مديرا لمجلة “نيوزويك أنترناشيونال”، فهو محرر أيضا على صفحات “نيويورك تايمس” “وول ستريت جورنال”، “نيويوركر”. كما أنه أحد أبرز المقدمين على قناة “سي إن إن”.
في تصديره للكتاب بعنوان “ما بعد الامبراطورية”، يشير وزير الخارجية الفرنسي سابقاً هوبير فيدرين، إلى أن فريد زكريا، هو أحد المحللين اللامعين للحياة السياسية الأميركية. في الوقت الذي انكفأ فيه الكثير من المحللين السياسيين على نرجسيتهم السياسية، أوهامهم وتخوفاتهم، قصد فريد زكريا رأسا الهدف: لا للتبشير بأفول الغرب وفي مقدمه الولايات المتحدة، بل للقول بانبثاق دول جديدة وصعودها. وهي قوى سياسية مناهضة للغرب. الأطروحة المركزية التي يعرضها فريد زكريا للنقاش هي أن العالم لم يعد، للمرة الأولى منذ خمسة قرون، بصفة حصرية غربيا. ليس هذا العالم الجديد مناهضا لأميركا، بل عالم “ما بعد أميركي”. القوى الصاعدة هي روسيا، البرازيل، الهند، والصين، وتعرف في صيغة BRIC ويضيف اليها البعض المكسيك. يتفق هوبير فيدرين مع فريد زكريا في أن أمام أميركا اليوم سلسلة من الحلول لإنقاذ نفسها من التهميش الذي قد يلحقها. أحد هذه الحلول هو الانفتاح على الآخر. لقد خسرت أميركا تحت رئاسة بوش الثاني وللمرة الرابعة منذ 1945، توجهها الصحيح: المرة الأولى عند نهاية الخمسينات، المرة الثانية عند بداية السبعينات، المرة الثالثة عند أواسط الثمانينات. فهل هي قادرة على احتمال خسارة أخرى؟ يسعى هذا الكتاب الى الإجابة عن السؤال.

هيمنة مطلقة وانتقال
بدل الحديث عن “انحطاط الأمبراطورية الأميركية” وهي أطروحة متداولة في حلبات النقاش السياسي، ركز فريد زكريا على القوى الصاعدة التي تشكل اليوم تهديدا حقيقيا لأميركا والتي في مقدورها أن تتجاوزها، بل تهمشها قريبا. فمنذ القرون الخمسة الأخيرة شهد العالم ثلاثة تحولات جذرية أساسية لتوزيع السلطة، ساهمت في كل مرة في إعادة تشكيل الحياة الدولية، سياسيا، اقتصاديا وثقافيا. أول تحول هو التطور الذي عرفه العالم الغربي. بدأ المسلسل منذ القرن الخامس عشر، مع تزايد في إيقاعاته عند نهاية القرن الثامن عشر. وتمخض عنه انبثاق للحداثة في شكل علوم، تكنولوجيا، تجارة، رأسمال، ثورات فلاحية وصناعية. كما أسس هذا المسلسل للهيمنة السياسية المتواصلة للأمم الغربية. التحول الثاني هو الذي شهدته السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر وتجسد بالصعود الخارق للولايات المتحدة على المشهد الدولي. إذ بفترة قليلة بعد إنجازها ثورتها الصناعية، أصبحت أميركا أقوى دولة في العالم منذ روما الأمبراطورية. كما أصبحت الدولة التي تتجاوز بقوتها كل تحالف ممكن. خلال القرن الماضي، هيمنت الولايات المتحدة بدون منازع على مجالات الاقتصاد، السياسة، العلوم والثقافة العالمية. وهذه ظاهرة نادرة وغير مسبوقة في التاريخ الحديث. التحول الثالث هو الذي نعيشه اليوم، ويمكنه تسميته “صعود الآخرين”. إذ خلال العقدين الأخيرين، عرفت العديد من الدول معدلات للنمو لم يكن ممكنا تصورها من قبل، حيث اجتازت هذه الدول العواصف الاقتصادية، انهيارات البورصة، أصداء الحروب وانعكاساتها، وكان التوجه لصالح الارتفاع في معدلات الاستثمار، الإنتاج والتنمية. وقفنا عند هذه الحقيقة في أسواق آسيا وإفريقيا وكذلك في الدول الغربية. إذ عرفت في عام 2006 -2007 قرابة 124 دولة إيقاعا للتنمية بمعدل أربعة في المئة، بل أكثر. يأتي فريد زكريا على ذكر أمثلة توفر البرهان على انتقال مراكز السلطة الاقتصادية والمالية والثقافية إلى بلدان أخرى: فمثلا نجد أن أغنى إنسان في العالم ليس أميركيا، بل مكسيكي من أصل لبناني. الشركة ذات الأسهم القوية في البورصة ليست شركة غربية بل صينية. كما أن اكبر المعامل وأضخمها توجد في الصين. قس على ذلك في المجال الثقافي. هذا مع العلم أنه في العشر سنين الأخيرة، كانت الولايات المتحدة تتصدر هذه القطاعات!
بدأت السلطة في فقدان مركزيتها. في مثل هذه الأجواء، فإن الاستعمالات والتطبيقات التقليدية للسلطة الوطنية، سواء الاقتصادية أو العسكرية، لم تعد ناجعة. سيكون هذا النظام الصاعد بالكاد مختلفا عن الأنظمة التي سبقته. على النطاق السياسي- العسكري سنبقى في عالم تهيمن عليه قوة عظمى واحدة، لكن على باقي الأصعدة، الصناعية، التجارية، التربوية، الاجتماعية، الثقافية، سندخل في رحاب عالم متوجه نحو نموذج ما بعد أميركي، تعرفه وتسيّره أقطاب ومجموعة من الأفراد.
ماهي فرص هذا النظام وتحدياته؟ ماذا يخبئ للولايات المتحدة ولدورها النافذ؟ كيف سنعيش إذا في هذا العالم الما بعد أميركي؟ أسئلة مصيرية بالكاد وتحتاج إلى الوقت الكافي للإجابة عنها.
لكن ثمة مفارقة عجيبة في الوضع الذي يشهده العالم اليوم. ففي الوقت الذي تعرف فيه السياسة مستويات غير مألوفة من التدني، يعرف الاقتصاد وثبة حقيقية. لكن لا يفوت فريد زكريا من تصحيح النظرة السائدة عن العنف، المتولد سواء من الحروب أو الحركات الإسلامية. فالإرهاب الإسلامي الذي يتصدر مانشيتات الصحافة اليومية هو مشكل معقد وشائك. إنها ظاهرة تهم حفنة من المتطرفين. كما أن العنف ينهل من الخروق التي يعرفها العالم الإسلامي ومن الشعور بالاحتقار والمذلة اللذين يمارسهما الغرب. كما أن هذا العنف يغرف أيضا من الشبكة العنكبوتية. وعليه فإن الحروب، الانقلابات، والإرهاب فقدت قوتها المشوشة على الاقتصاد المحلي أو العالمي. كان لهجمات الحادي عشر من أيلول أثر وخيم في الزمان والمكان، غير أنه على المدى المتوسط والبعيد، فإن الارهاب لا يقدر على ضرب الاقتصاد وهدمه بشكل بنيوي.

هفوات الثراء
خلال العشرين عاماً الأخيرة، خصصنا الكثير من الوقت والطاقة للاهتمام بالأزمات التي تتخلل الاقتصاد العالمي والإرهاب والابتزاز النووي ولجيو- سياسة الحرب. وهذا شيء طبيعي، لأن استعدادنا للضراء لربما ساعدنا في تجنب الأسوأ. وقد واجه العالم بالفعل أحداثاً وخيمة من حروب البلقان وإفريقيا إلى الإرهاب الدولي مرورا بالأزمات الاقتصادية في جنوب شرق آسيا وخصوصا في الولايات المتحدة. غير أن انكبابنا على “الجانب المظلم” تركنا من دون استعداد أمام مجموعة مشكلات عويصة، وهي نقائص تتعلق لا بـ”الفشل” بل بـ”النجاح”. أن نعيش في عالم من النماء المتزايد، هو في حد ذاته خبر سار، لكنه يطرح سلسلة مآزق. فإذا كانت قضية النمو العالمية هي قضية القضايا لعالمنا اليوم، فإن بعض الدول التي تمتلك إمكانات طبيعية وبخاصة البترول والغاز الطبيعي، لا تعير هذه المسألة أدنى اهتمام. بل تستفيد من الوضع، تغتني من دون احترامها القواعد التي تحكم الاقتصاد العالمي. إنها تحديات تمارسها اليوم بلدان مثل إيران، فنزويلا، وروسيا. ففي الوقت الذي تعتقد أنها تواجه أميركا، “تعاقب” بمعنى ما دولا أخرى ضعيفة.
درس العديد من الملاحظين والمعلقين السياسيين حيوية العالم الجديد ليخلصوا إلى فكرة مفادها أن الولايات المتحدة قضت زمانها. مؤسس مجموعة “آنتيل”، آندي غوف، يعبر من دون مواربة عن هذا الاقتناع عندما يقول: “ثمة خطر من أن تنتهي الولايات المتحدة، على نحو سيئ، مثل أوروبا. ها هم اليوم يتصايحون في الوقت الذي تسير فيه “التيتانيك” نحو الجبل الجليدي”. أما الصحافي غابور شتينغارت، وهو صحافي في مجلة “در شبيغل” فقد تحدث عن هجوم “العولمة المضادة”. في وقت فقدت فيه الولايات المتحدة قطاعات مهمة من الصناعة الحيوية، فإن دولا أخرى شرعت في الهجوم للاستحواذ على هذه القطاعات. لم يعد في مقدور الأميركيين الادخار. فقدوا منذ سنوات هذا الحس، كما أصبحت مديونية الدولة تجاه البنوك المركزية مرتفعة للغاية، بعدما استقر النمو منذ العشرين عاما الاخيرة في حدود ثلاثة في المئة. تعرف الولايات المتحدة اليوم منافسة شرسة لم تعهدها من قبل.

آخر قوة عظمى؟
كانت الولايات المتحدة في العشرين عاما الأخيرة هي سيدة القرار. كانت الموجه المرجعي للسياسة والاقتصاد والنظام العالمي، وقد بلغ هذا النفوذ قمته مع حرب العراق. لكن في هذا التفوق تكمن أسباب التراجع. أي في الانفراد بالقرار أو ما يسمى القطب الأوحد للسلطة. إذ بدل قطب واحد أصبحنا نعيش تقاطبا تعدديا. هذا لا يعني نفيا لأميركا أو تجاوزا لها، لأنها قوة عظمى بالمعنى الكامل للكلمة. إن العالم الجديد لن يولد قوة عظمى جديدة، بل سيوطد من تعددية القوى. ويمكن واشنطن أن توجهها أو تساعدها في أخذ موقعها في المنظومة الدولية.
نشأ لدى العديد من الأميركيين وعي حاد بالتغييرات التي اعترت العالم. وهو في حد ذاته حدث ذو قيمة. في الجامعات الأميركية تطور هذا الشعور. بدأ الطلبة في السفر إلى الخارج. أقاموا علاقات مع طلبة أجانب. يدرك الجيل الجديد من الشباب الأميركي أن آخر التوجهات وأحدثها في ميادين المال، الهندسة، الفن، والتكنولوجيا، تنهل طاقتها من عواصم مثل لندن، شانغهاي، سيول، أو بومباي. هذا الانفتاح غير مألوف في المجتمع الأميركي. لكن حتى وإن عرف بعض التغييرات، فإن الاقتصاد الأميركي يبقى موجها نحو السوق الداخلية. تركت هذه العزلة الأميركيين في وضعية جهل تجاه العالم الذي يقع خارج حدودهم. لا يتكلم الأميركيون لغات أجنبية، لا يعرفون شيئا عن الثقافات الأجنبية، اعتقادا منهم أنهم ليسوا في حاجة إلى الآخرين وأن أسلوب معيشتهم يبقى الأفضل. هكذا من دون مجهود كبير لردم الهوة بين التصورات الضيقة للأميركيين والمنظور الكوسموبوليتي الذي نعيشه اليوم، فإن ذلك من شأنه إلغاء الامتياز التنافسي لأميركا ومستقبلها السياسي.
لم يكن من الصعب انتقاد الغطرسة التي غذّت سياسة بوش الثاني وإدارته. لكن المشكل لا ينحصر في الرئيس السابق وأعوانه أو مجموع الجمهوريين، بل يتعداهم أيضاً إلى الديموقراطيين. ففي مواضيع التجارة، معايير الشغل وبعض القضايا الخاصة بحقوق الإنسان أو في موضوع الإرهاب،فإن الحزبين يتوجهان حصرا إلى الجمهور الوطني أو المحلي. وعندما يتوجهان إلى الخارج، لا يعرفان سوى لغة التهديد. فالولايات المتحدة هي البلد الوحيد الذي يصدر سنويا حول تصرفات الآخرين ما يشبه البيانات المدرسية. “هذا طيب السلوك وهذا قبيحه”.
يخلص فريد زكريا إلى الدرس الآتي: إن رغبت الولايات في الحفاظ على موقع مميز في العالم، فإن رهان مستقبلها يقوم على التخلص من الغطرسة والخوف اللذين يعدّان احد مكوّنات وجودها. فهل هي قادرة على ذلك؟

باريس – من المعطي قبال
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى