من الكاتب الذي أثر بك: أنطون، حسن، اسبر، ثابت، عز الدين يجيبون
أبواب تقودنا من باب إلى باب وجسور إلى الكبار وفي الأخير كل يخترع أسلافه
اسكندر حبش
بالتأكيد لا نأتي إلى الكتابة من فراغ، فنحن إن كتبنا، فلأننا قرأنا قبل ذلك. ربما هي متعة القراءة التي جعلتنا نمسك القلم لاحقا، ونخط أولى محاولاتنا. ومع مرور الوقت، تتحول هذه المحاولة، إلى نمط وحياة كاملة، أي تأخذنا في رحلتها البعيدة، لنسافر فيها في كلّ مرة، نرى الورقة البيضاء أمامنا.
ومع القراءة، نكتشف أن ثمة أخوة لنا، أي ثمة من يشبهوننا، وثمة من يلعبون دورا في تحديد مساراتنا الكتابية والفكرية. إزاء ذلك، طرحنا على عدد من الكتاب، سؤالا، يجد امتداده في هذا الحيّز: «من هو الكاتب غير العربي (الأجنبي) الذي اثر بك»؟ وإذا لم نختر، في السؤال، كاتبا يكتب بلغة الضاد، فلأن الأدب، في النهاية، يتخطى جميع الحدود والجغرافيات، حتى جغرافية اللغة. هنا إجابات كل من سنان أنطون (العراق)، مها حسن (سوريا)، علاء حليحل (فلسطين)، عبير اسبر (سوريا)، عبد الله ثابت (المملكة العربية السعودية) ومنصورة عز الدين (مصر).
سنان أنطون:
اسمه سيميك
هناك سلالة كاملة من الكتّاب وسأظلمهم وأظلمهن، جميعاً، عندما أختار واحداً فقط، لكن هذا ما يمليه علي السؤال. (لعل الظلم، حقا، من شيم النفوس). منذ سنتين ونصف وأنا مهووس بشاعر واحد. كان من أولئك الكتّاب الذين يقرر المرء ضرورة قراءتهم لأهميتهم، لكن الأمر يتأجّل كلّ مرة لأسباب شتّى ويصبح مصدر شعور بالتقصير. ذات يوم، قررت أن أتعامل مع هذا التقصير فاقتنيت إحدى مجموعاته الشعرية. انبهرت بصفاء الشعر وقوته وجمال اللغة وشعرت بالندم علىّ كل السنين التي لم أقرأه فيها. يدهشني هذا الشاعر دائماً وتفرحني قراءته كلّ مرة وكأنني أقرأه لأول مرة. التهمت ذلك الديوان ثم اقتنيت كل كتبه الأخرى ومقالاته المجموعة وحواراته. سحرني شعره فترجمت الكثير منه وسأنشر مختارات في المستقبل القريب. شاعر «آخر» بمعنى الكلمة لا يمكن وضعه إلا في خانة بمفرده. يقول ما لا يقال، وينصهر السوريالي والواقعي في خطابه الشعري، وكذلك الأزلي والزائل، ويظل التاريخ والإنسان والعلاقة الجدلية بينهما هاجسه الأساسي، لكن القالب لكل هذا وذاك هو الشعر الصافي. إقرأوا معي: «كانت أمّي ضفيرة من الدخان الأسود. حملتني بالقماط فوق المدن المحترقة. كانت الريح تعصف بالسماء الشاسعة، التي كانت أكبر من أن يلعب فيها طفل. التقينا بآخرين كثيرين مثلنا بالضبط. كانوا يحاولون ارتداء معاطفهم بأذرع من دخان. وبدلاً من النجوم، كانت السماوات العالية مليئة بآذان صغيرة منكمشة وصمّاء.» اسمه تشارلز سيميك.
مها حسن:
بذرة كافكا
من الصعب على أحدنا رصد كاتب واحد، أثر به، لأن التأثير، برأيي حالة متداخلة ومستمرة. بدايتي الفكرية كانت مع سارتر. يكاد سارتر يكون مؤسسي الذهني. في الفترة ذاتها تأثرت بنيتشه. تأثرت لاحقا بكولين ولسون، واكتشفت في ما بعد، هنا في فرنسا، أن الغرب لا يقيم له وزنا كبيرا، وثمة الكثير ممن يجهلونه.
صعوبة هذا السؤال، جعلتني أتخيل نفسي في منزل كبير مكّون من عدة غرف. في داخل كل غرفة، ثمة كاتب ممن أثروا بي. ينبغي علي اختيار واحد من هؤلاء، لأدخل غرفته. ثمة أبواب متعددة، باب يفضي إلى غرفة سارتر، آخر لنيتشه، غرفة لبروتون، أخرى لولسون، ثمة أنطونيو غالا، ديستويفسكي، هيرمان هسه، وأيضا أرنستو ساباتو… من جميع الغرف، سوف أختار الغرفة الأقرب إلي، سأدفع بباب كتب عليه: كافكا.
اليوم، من موقعي الجغرافي البعيد، وأنا أنظر إلى تلك الأرض التي كبرت فيها، وتعلمت، وتأثرت… أعتقد أن البذرة المهمة التي كبرت بداخلي، هي بذرة كافكا. كافكا أثر بي لأني شعرت أنني أتقاسم معه الكثير من الأشياء، وخاصة علاقته بوالده. أظن أن «رسالة إلى الوالد» هي أكثر ما أثر بي في تاريخ الكتابة، أظن في النهاية، أن ذهابنا إلى الكتابة والقراءة، هو بحث خاص وفردي عن الأنا. كافكا قربني من هذه الأنا.
علاء حليحل:
أختار تشيخوف
من بين غابرييل ماركيز وبوريخس وغوستاف فلوبير وهاروكي موراكامي ومايكل مارشال وجان جينيه وهارولد بينتر ومؤلف(ي) ألف ليلة ليلة وفريدريك لوركا ووليام شكسبير وسوفوكليس، سأختار أنطون تشيخوف. أختاره الآن ربما لأنني أشعر بتأثيره القصصيّ والمسرحيّ عليّ وعلى أفكاري، ويجوز أنني سأختار كاتبًا آخر بعد سنة، مثلا.
عوضًا عن أنّ تشيخوف كاتب هائل فإنه إنسان قُدوة أيضًا. فتاريخ حياته وترعرعه في بيت مُدقع الفقر وتوليه زمام إعاشة الأسرة منذ مراهقته ورغم ذلك تمسكه بالكتابة – يجعل المرء يقف مشدوهًا أمام هذا التصميم. كما أنّ ردود الفعل على مجموعتيه القصصيتين الأوليين ومسرحيته الأولى التي كانت فشلا ذريعًا لم تكسره ولم تدفعه باتجاه هجر الكتابة. مثال على هزم الإيغو اللعين. ومع أنه كان يقول في شبوبيته إنّ الطب زوجته الشرعية المستدامة والأدب عشيقته السرية العابرة، إلا أنّ العكس ثبت. إنها المراوحة اللذيذة، المتعبة، الشيقة، بين الامتهان والهواية، بين تكريس الذات للكتابة والالتفات إلى «مُجديات» الحياة.
يسحرني تشيخوف في قدرته السردية المتينة والسلسة في آن. فبساطة التمثيل التي كان يعظ لأجلها أثناء المراجعات على مسرحياته ألحقها ببساطة قوية ومتينة وعميقة في أسلوبه السرديّ. إنه مثقف كبير وكاتب أكبر، لم يسمح لجدية المهنة بإفساد روح الدعابة الحادة والصقيلة الذي كتب بها. ما زالت مسرحية «الدبّ» مثالا على الكوميديا الشعبية التي ترتكز على الفكر والثقافة المتينين. واتشيخوفاه!
عبير اسبر:
كويتزي الذي أعاد انتاج الكبار
غالبا ما كنت أتفق مع الجميع، حول أهمية أن يكون للأدب، وللأديب صوت مطلق الذاتية والتفرد، خصوصية ما، جغرافيا غير مكتشفة يحتلها، هندسة مغايرة يبشر بها، عبر نصوص خلاّقة دوماً، تجريبية، انقلابية، مفَكِكة وكل تلك الصفات المصرة على اللاتكرار واللاتناسخ واللا من كل شيء، أُصّر على أن للأدب الرفيع، بداية تنطلق من الصفر، الصفر الذي يجب أن يساوي حكماً، قيمة تضاهي الاكتشاف! هذا ما كنت عليه، بالطبع قبل أن ألُقن درسا ممتعاً على يد ج م كويتزي، الذي لم يبال بكل ذلك، بل أعاد إنتاج روايات العظماء من ديستويفسكي وكامو وكافكا، وسار فيها خطوة إضافية تجاه أدبهم ذاته، أعاد إحياء الأسئلة الكبرى، الأسئلة القيمية، التي أصبحت مؤخرا أسئلة مرهقة لكاهل الأدب الحالي، الساخر، الحسي، الكافر بالقضايا، المنفلت من صرامة الأدب الرصين، العتيق، الممل، السيئ السمعة، خاصة في أوساط متذوقي ومنتجي الأدب الآن.
في روايته «في انتظار البرابرة» يحضر ديستويفسكي بقوة، فعبرها لم يسأل كويتزي سؤال أوربا الاستعمارية النادمة والمعاَقبة بذاكرتها النازية، ذاك السؤال الأزلي عن الجلاد والضحية وإلى أي جانب منهما يجب أن ننحاز؟ لأنه أوضح أنه في حالات البشاعة العظمى، عندما يُفرض عليك أن تختار بين الجلاد والضحية، فإن الأخلاق الوحيدة لا أن تنحاز إلى الضحية، بل أن تكون أنت الضحية. ما سحرني في أدبه على الدوام، أن اكتشافاته الروائية لم تكن لغوية ولا تجريبة بنيوية، ولا اختبارات حداثوية، بل تذكيرا بالقيم البدئية، والأخلاقية للأدب، لم يهمه أن ينطلق من الصفر، لأنه حتى عبر روايته لحكايات حكيت آلاف المرات عن الجلادين والضحايا، عن المستَعمِر والمستَعمَر، استطاع أن يجد النور في أضيق الزوايا إعتاماً..
عبد الله ثابت:
تقرير إلى غريكو
بدءاً.. لم يؤثر بي كاتب بعينه، لا عربياً ولا غير عربي، لقد أثر بي عمل لهذا، وعمل لذاك، وعمل لآخر، وعملٌ وعملُ وعمل في كل مرة لأحدٍ ما.. إلخ. وتأثري هذا مفتوحٌ لآخر حياتي، يحدث أنه يأتي أحياناً كل يوم، ومرةً لا يأتي لشهورٍ طويلةٍ إلا مرة، لكنه ما زال يأتي وأنتظره، لأني ما زلت حيّاً وأسمع وأرى وأحسّ وأقرأ، ما زال يأتي هذا الأثر مرةً في رواية، ومرة في كتاب شعر، ومرة في كتاب تاريخ أو فلسفة.. يأتي هذا الأثر ولو عبر جملة واحدةٍ فقط، لكنها وحدها من كتابٍ كامل هي من حفرت نفسها عميقاً في الذاكرة!. هذا ما لدي، أما إذا كان السؤال عن الأعمال المكوّنة الأولى، فالإجابة على سؤال كهذا محيرة وشاقّة وواسعة، لأنها تعني أن تعلن نفسٌ ما، تواجه عتمة الكون والمجهول والآخرين.. عن ذخيرتها!.
بأية حال.. يمكنني بهذا الفهم أن أفصح عن القليل مما مسّني يوماً ما، لأني أدرك أنه مسّ كثيرين جداً معي، وهكذا فلن أعلن سرّاً، سأجيب بخفّةٍ عابرة، وأقول إن هذه الأعمال مثالٌ، لا حصر، لما أثر بي يوماً ما: «تقرير إلى غريكو»، و«بلدي داغستان» و«النفق» و«الجميلات النائمات» و«أجمل غريق في العالم» و«الأشياء تتداعى» و«هكذا تكلم زرادشت» و«عيون إلزا» و«القناعات أكثر شرّاً من الأكاذيب» و«نشيد الإنشاد» و.. و.. و.. و.. الخ!.) .
منصورة عز الدين:
اخترع أسلافي
لا أميل كثيراً لتقسيم الكتّاب حسب جنسياتهم، لكن لو سرت وراء هذا التصنيف، يمكنني القول إن ألبير كامو كان من أول الكتّاب الذين قرأتهم وتأثرت بهم منذ طفولتي، قبل حتى أن أفكر في الكتابة.. كنت في الثانية عشرة من عمري حين وجدت ملفاً قديما عنه في مجلة متروكة في ركن مهمل من بيت صديقة لي.. قرأت الملف بأكمله وأنا عندها، وأخذت المجلة معي. كانت تلك أشبه بلحظة سحرية تعرفت فيها على آخر متمرد ومؤرق يسأل أسئلة كنت أطرحها على نفسي بشكل فطري عن الوجود والموت والإله. بحثت عن أعماله المترجمة، ووجدتها بصعوبة وعلى فترات متباعدة. أذكر أني كنت أعلق في غرفتي صورتين فقط الأولى لجيمس دين والثانية لألبير كامو، وكنت وحدي أجد صلات مشتركة عميقة بين الاثنين، كما وصفت كامو في واحدة من قصصي الأولى بـ«الأحمق الذي حول عقلي إلى نفاية». بالطبع ثمة كتّاب آخرون أحببتهم غير أن الأكثر تأثيراً دوماً هم من يساهمون في تشكيل الوعي منذ البداية. هناك ديستوفيسكي، وليم فوكنر، كافكا، خورخي لويس بورخيس، ميلان كونديرا، كاواباتا، إميل سيوران، نيتشه، فرناندو بيسوا، وخوليو كورتاثر الذي اعتبره على رأس قائمة كتّابي المفضلين، وربما يكون الكاتب الوحيد الذي كنت أحب أن التقيه وجهاً لوجه لو كان حياً. لقد بدأت في تعلم اللغة الإسبانية مدفوعة برغبة قوية في قراءة أعمال كورتاثر وبورخيس وبيوي كساريس وسربانتس بلغتهم الأصلية. «دون كيخوته» لسربانتس على سبيل المثال من أهم الروايات العالمية من وجهة نظري، ولا أمل من قراءتها، قرأتها متأخراً أثناء دراستي الجامعية واندهشت كيف أنها أكثر جدة من كثير من الروايات التي تُكتب حالياً.
المسألة عندي لا تتوقف على الكتّاب فقط، إذ تمثل السينما رافداً أساسيا بالنسبة لي، ثمة مخرجون أشعر بقرابة معهم، مثل سكورسيزي، كوانتين تارانتينو، فرانسيس فورد كوبولا، ديفيد فينشر، وجاي ريتشي الذي أحببت فيلمه «lock, stock, and two smoking barrels» لدرجة تمنيت معها أن أكون أنا كاتبته ومخرجته. ككاتبة يستهويني ما هو مظلم وجارح وقاسٍ وساخر في الوقت نفسه.
أؤمن تماماً بمقولة بورخيس الخاصة بأن كل كاتب يخترع أسلافه ويعيد خلقهم. أنت تبحث عن نفسك في آخرين، وربما تخترعهم، وتمنحهم من داخلك ما لم يقصدوه، كأن عملية القراءة والتأثر هي نوع من الحوار أو العلاقة الجدلية التي تسير في اتجاهين لا في اتجاه واحد.
السفير