صبحي حديديصفحات ثقافية

مستحيلات الهولوكوست

null
صبحي حديدي
في مناسبة صدور الترجمة الفرنسية لكتابه ‘يوميات الشقاء’، أدلى الروائي المجري ـ اليهودي إيمري كيرتيش (نوبل الآداب، 2002) بسلسلة تصريحات حول الصلات بين الأدب والهولوكوست، فذكّرنا مجدداً أنّ منحه أرفع جوائز الأدب العالمية كان واحداً من أسوأ أخطاء الأكاديمية السويدية، ربما على امتداد تاريخ الجائزة.
إنه، كما في كلّ مرّة، يرفض تصنيف الهولوكوست كـ’موضوع’ أدب، لأنّ الشقاء اليهودي في أوشفتز وسواها من معسكرات الإعتقال النازية هو أقرب إلى ‘أسطورة دائمة’ منه إلى مادّة أدب أو فنّ أو سجلّ تاريخ. ولهذا فإنه، وهو المقيم في برلين، وكرّمته ألمانيا على أعلى المستويات مؤخراً، يستخدم الأدب لكي ‘يسبغ الشكل’ على فظائع الألمان بحقّ العالم؛ وأمّا الهولوكوست فإنه انفراد مطلق في تمثيل الشقاء، بدليل أنّ اليهود مازالوا محطّ كراهية اليوم، أكثر من برهة أوشفتز.
ولا يلوح أنّ كيرتش تقدّم كثيراً، بمعنى تطوير أدوات السجال على الأقلّ، عن حاله في محاضرة القدس المحتلة، أواسط نيسان (أبريل) 2002، بدعوة من مؤسسة ‘ياد فاشيم’، راعية متحف الهولوكوست، والتي جاءت تحت عنوان ‘حرية التماهي الذاتي’. إنه ما يزال مؤمناً بأنّ ‘الألمان أنفسهم هم الذين أبادوا الثقافة الألمانية في المناطق متعددة القوميات، حيث يختلط السكان وتختلط اللغات الأمّ التي كانت واقعة سابقاً تحت التأثير الألماني. لقد قتلوا أقلية يهودية تتكلم الألمانية أو اليديشية، وأعطت اللغة الألمانية فنّانين مهمين مثل جوزيف روث، فرانز كافكا، وبول تسيلان’.
وما يزال صاحبنا ‘يحكّ’ جلده باستمرار، كما يكتب، حين يقتبس مقولة مونتسكيو الشهيرة، ‘في المقام الأول أنا إنسان، ثمّ بعدها فقط أنا فرنسي’، فيستنتج منها أنّ ‘العنصريين’، إذْ أنّ ‘العداء للسامية بعد أوشفيتز لم يعد عداء للسامية فقط’ بل صار ممارسة عنصرية، من أناس يريدونه أن يكون يهودياً في المقام الأول، ثمّ بعدها ‘ليس في وسعي أبداً أن أكون إنساناً’. وهذا ما يجعله يردّ البضاعة إلى الآخرين: ‘فور قبولنا بأطروحات العنصريين، سوف نصبح يهوداً، واليهودي كما قلت لا يمكن أن يكون إنساناً. وبهذا، كلما حاولنا إثبات طبيعتنا الإنسانية، أصبحنا أكثر بؤساً وأقلّ فأقلّ إنسانية’.
بعد هذا المنطق الإنغلاقي والتأثيمي في آن، ومن باب تعليق الحجة على مشجب آخر، يذهب كيرتيش إلى الشاعر الفرنسي ـ اليهودي إدمون جابيس، بحثاً عن العلاقة بين شخصية اليهودي وشخصية الكاتب، إذ يقول إنّ ‘صعوبات أن يكون المرء يهودياً، هي نفس صعوبات أن يكون المرء كاتباً’. يصادق كيرتيش على هذا القول، ويضيف: ‘من أجل أن أدمج كينونتي كيهودي في كينونتي ككاتب، توجّب عليّ أن افكّر في يهوديتي تماماً كما أفكر في خلق قطعة فنية، والذهاب بها إلى الكمال: أي أن أفكّر بيهوديتي كواجب ومهمّة، كقرار بين كمال الوجود وإنكار الذات’.
ويحدّد كيرتيش معادلات هويته ككاتب يهودي، أياً كان مقامه الجغرافي أو اللغوي، كما يلي: ‘أنا أسير شروطي، وهذه الحقيقة يجب أن تترك علامتها على مظاهري الفكرية. إذا قلت إنني كاتب يهودي، فإنني لم أصرّح بعد بأنني أنا نفسي يهودي. فأيّ يهودي هذا الذي لم يتلقَ تربية دينية، ولا يتكلم العبرية، ولا يعرف أي شيء عملياً عن المصادر الأساسية للثقافة اليهودية، ولا يعيش في إسرائيل بل في أوروبا’؟
وهنا، بالطبع، لا مفرّ من أن يصل كيرتيش إلى المعيار الأخطر في عمارة تصارع الهويات وارتطامها: ‘الشخص الذي تكون هويته اليهودية الأساسية أو الإستثنائية هي أوشفيتز، لا يمكن اعتباره يهودياً بمعنى ما. إنه اليهودي اللايهودي، مثل إسحق دويتشر، ثمرة ‘التغيار’ الأوروبي، المقتلَع من جذوره، الذي لم يعد يستطيع مصالحة نفسه مع يهوديته’. صحيح أنّ لهذا الشخص أهميته في الثقافة الأوروبية، ولكن ‘لا صلة تجمعه بالتاريخ اليهودي بعد أوشفيتز، ولا بتجدّد الحياة اليهودية. وكلّ ما نستطيع قوله هو أنّ يهوديته مشروطة بأن يتوفّر، أو سوف يتوفّر، أي نوع من أنواع التجديد اليهودي’.
وأخيراً، ‘ليس للهولوكوست لغة، ولا يمكن أن تكون له لغة’؛ وكيرتيش يكتب بالهنغارية، لأنّ ذلك يتيح له أن يدرك ‘استحالة الكتابة’؛ وبعد جابيس، ها هو يذهب إلى فرانز كافكا الذي تحدّث عن مستحيلات ثلاثة: عدم الكتابة، والكتابة بالألمانية، والكتابة بغير الألمانية. وأمّا إسهام كيرتيش فإنه يتمثّل في المستحيل الخامس: الكتابة عن الهولوكوست! إذا كانت هذه الكتابة مستحيلة حقاً، فعلاً أو مجازاً، فكيف تكدّس كلّ هذا الركام الهائل من الكتابات عن الهولوكوست؟ وكيف اخترقت المستحيل، بل المستحيلات جمعاء؟
المستحيل الوحيد الثابت، حتى الساعة، هو استعداد كيرتش لإجراء أدنى مراجعة لسلسلة تصريحات فاضحة، أطلقها من قلب القدس المحتلة، وبرهنت بدورها على فضيحة منحه نوبل الآداب: كلّ مبادرة ضدّ إسرائيل هي عداء للسامية، يقول كيرتيش، والتمييز بين العداء لإسرائيل والعداء للسامية غير ممكن، والعداء لليهود يدوم منذ ألفي سنة وأخذ ‘يتبلور في تمثيل عامّ حول النوع البشري’، ليس أكثر. الفلسطيني، من جانبه، لا يُذكر على لسان كيرتيش إلا في هيئة ‘انتحاري يفجّر نفسه مستلذاً’، فيقبض أهله مبلغ 25 ألف دولار، من… صدّام حسين!
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى