جـُمــــل الآخـريــــن
عباس بيضون
حينما طلبت مجلة «الوسط» المحتجبة من نجيب محفوظ ان يكتب رسالة لأستاذه الأدبي لم يتردد محفوظ في أن يسمي مصطفى لطفي المنفلوطي ولا بد أن حيرتنا لن تكون بالقدر نفسه لو أن محفوظ سمّى تشيخوف أو بلزاك، لو أنه سمى روائياً على الأقل، لكن محفوظ لم يتوخ بالتأكيد أن يحيّرنا، فهو لم يتعب حتى وجد هذا الاسم، لقد كان في باله من زمان لكأنه انتظر سؤالاً كهذا ليؤدي ديناً لا يزال على كاهله منذ المراهقة. لن يجد القارئ الشاب وجه شبه بين الرجلين، المنفلوطي في خطراته وعبراته وترجماته المحورة رومانطيقي بالقدر الذي يتاح فيه لأزهري ان يكون رومانطيقيا. كان الامتلاء العاطفي لا يجد مصيراً الا السقوط في بكائية عارمة ولا يخرج بصاحبه عن سوية الاخلاق والدين. انها «مثالية» تمجيد العذاب الذي هو افتداؤها وتضحيتها المقدسة ونبلها المتعالي. ليس هذا بالتأكيد شأن محفوظ الواقعي الذي يجد سبب الرواية في انقسام البشر وازدواجهم وتدنيهم عن أي مثال وتهافتهم الأخلاقي، لم يكتب محفوظ رواية نقارنها بالفضيلة او بول وفرجيني روايتي المنفلوطي اللتين ترجمهما وتزيّد فيهما ووضع فيهما من نفسه ومن رؤياه، فيم إذن يدين محفوظ للمنفلوطي وما هو هذا الدين، ليست الرؤى ولا الأفكار ولا المزاج ولا الخيال ونحن لا نزال نظن ان هذه هي حدود التأثر ومحالاته. محفوظ في رؤاه وأفكاره ومزاجه وخياله نقيض المنفلوطي ففيم كان التأثر الذي لم يحبس محفوظ لسانه عن النطق والاعتراف به. لم يأخذ محفوظ عن المنفلوطي مواقف وآراء ومشاعر مدموغة به ولا تنفصل عن شخصه. أخذ عنه ما لا يقترن بشخصه وما يمكن ان ينتقل خفية إلى غيره، ليس الفكرة ولكن طريقة التعبير عنها. ليس العاطفة ولكن صياغتها وتصويرها. ليس الموقف ولكن موازين المحاكمة والدفاع والجدل. هذا مجرد وسائط، يمكنك بالعبارة نفسها ان تدافع عن نقيض الفكرة التي قرأتها بها، يمكنك بالأداء ذاته ان تصور عاطفة مخالفة، أو تصور أي عاطفة كانت. يمكنك ان تجد صياغة لمواقف شتى. فهذه «الجُمَل» وهذه السياقات ليست لازمة لأفكار وعواطف وخيالات من أي نوع، انها من هذه الزاوية أداة ليس إلا، وأوعية بحسب ما نضع فيها، أي أننا كما فعل محفوظ نحرر الحملة من افكارها وفحواها ونجعل منها أداء فقط. مثلها مثل اللون او الكلمة او الإيقاع أي انها المادة الأولى الأسبق التي نصوغ منها ما تجبله يدانا وأفكارنا، نصوغ منها رؤى ومشاعر وأفكاراً كما نحب وكما نشاء وكما نهوى.
أحسب أن نجيب محفوظ كان صادقاً في تسميته للمنفلوطي. لكن جملة المنفلوطي ضاعت في روايات محفوظ، بل وحملت اسمه ولم يعد لصاحبها الأول أثر فيها أو دليل.
لقد امتص محفوظ الجملة المنفلوطية الأصل، أدى بها قوالب وأفكاراً ومشاعر لم يكن لها قبل في أصلها، جعل منها مادته الأولى ونفخ فيها روحاً جديدة، حيّدها منها وأفرغها من كل ما كان يلازمها، لقد رأى الجملة بدون فحواها، رأى الغالب والشكل بدون المضمون. لاحظ النفس والحبكة والصفة واشتغل بها ما يلائمه ويناسب مراده.
يخفى هذا التأثر إلا عن الدارسين ويصل إليه هؤلاء بالجهد والحيلة، إلا ان هذا هو الفرق بين الامتصاص وبين التقليد. يشيع في أدبنا ان نعثر على جملة ليست لصاحبها، لكن جملة كهذه تضيع في السياق. فهي لا تستطيع ان تنشل النص او تحوله او تطبعه. نجد في شعر البياتي مثلاً جملاً من هذا النوع، وسبق لإحسان عباس ان وجد عنده لمحات إليوتيه. إلا ان البياتي يبقى البياتي ويبقى سياقه نفسه، وتتطبع به العبارة المجلوبة فلا نشعر بها ولا نلحظها. لا تستطيع عبارة بالطبع ان تنشئ نصاً، ولا يعتدّ بعبارة كهذه في نص فالأرجح ان التأثر الكتبي ذو طبقات وخزين لا نهاية لهما، والغالب ان كل نص يبني على هذا الخزين، وان الجديد يستبطن الكثير مما قدم وتأخر. وان ما يبقى فيه وما يتسلسل إليه أكثر من ان يتعين. الواضح ان نظرية بورخيس في المؤلف الكوني الواحد ليست عبثاً، فالكتابة هي في جانب منها تاريخ واختزال وامتصاص وتحويل، غير ان مكتبة كاملة تلوح من كل نص، مكتبة كونية إذا تابعنا بورخيس، بحيث ان الكاتب لا يفعل سوى ان يؤدي. انه على نحو ما، خلاصة لخزين إنساني.
لحظ محفوظ رغم كل ما فعله الزمن صلة عبارته بعبارة المنفلوطي، لقد أرخ هكذا لأدبه. لكنه في نفس الوقت يلفت الى ناحية اخرى في التاريخ الأدبي. انه تاريخ الكلام وتاريخ الأساليب، يمكننا هكذا ان نلحظ صلة مماثلة بين الجاحظ وطه حسين على سبيل المثال ولو تابعنا لوجدنا ان بين التراث والمحدثين صلات لا تنكر وان الكاتب يستبطن تاريخ اللغة في أدبه وان جلْدنا اللغوي لا ينشأ بطريقة اخــرى، ربــما نرتاح عندئذ من البحث عن الأصول والجذور وندرك ان اللغة تحمل إلينا سابقينا وتحملنا الى غيرنا.
السفير الثقافي