النهضة العربية… خطوة للأمام فخطوات للوراء
حسين العودات
ولدت حركة النهضة العربية قبل قرنين، وبديهي أن هذه الحركة لم تكن نتيجة قرار انخذه شخص أو حاكم أو نظام سياسي، وإنما نتيجة سياق تطور داخلي وتأثيرات خارجية وشروط موضوعية، وكانت على رأس الأسباب التي أطلقت النهضة، غزوة نابليون لمصر واطلاع المصريين من خلالها على الأفكار الأوروبية والتطور الأوروبي في مختلف المجالات، وضعف السلطنة العثمانية وتواجد الظروف التي شجعت الشعوب من رعاياها على المطالبة بحقوقها القومية والدينية، والإصلاحات العثمانية في القرن التاسع عشر (خط شريف كولخانة 1839 وخط شريف همايون 1856) وما تضمنته من الاعتراف بحقوق شعوب السلطنة القومية ودياناتها، وبداية الإقرار باللامركزية والحكم الدستوري، والتخلص من نظام الاستبداد والفساد والامتيازات. وعزز من تسارع حركة النهضة انتشار المطابع والصحافة ونشوء برجوازية عربية تجارية، وتطور الحرف والحرفيين إلى ما يشبه الوحدات الصناعية، فضلاً عن انتشار المدارس الحديثة وإرسال البعثات إلى أوروبة. وقد لعبت إصلاحات محمد علي باشا في مصر والحسن الأول في المغرب والباي أحمد في تونس دوراً هاماً في انطلاقة النهضة، وخاصة في إنشاء الصناعات العسكرية (مما حرض على قيام صناعات أخرى) وتطوير نظم التعليم وخاصة في الأزهر والقيروان والزيتونة، وإعادة هيكلة إدارة الدولة مع شيء من التحديث.
قامت حركة النهضة العربية على أكتاف ثلاثة تيارات فكرية سياسية تنويرية، هي التيار الإسلامي الإصلاحي والتيار الليبرالي والتيار القومي، وقد ساهمت هذه التيارات الثلاثة في التأسيس للنهضة ونشوئها وإغنائها بالأفكار والتطبيقات، ومارس كل من النهضويين في هذه التيارات مسؤولياته، وناضل من أجل النهضة والتنوير وإيجاد المناخ الملائم للحداثة العربية (التي لم تكتمل لسوء الحظ) وعرّض كثيرون منهم أنفسهم للمخاطر في سبيل ذلك.
قام التيار الإسلامي على أكتاف رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي ومحمد الحجوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي وقاسم أمين وحسين الجسر وغيرهم ، ونادى هؤلاء النهضويون المتنورون المنورون بالأخذ بمنجزات التمدن، وإعمال العقل في شؤون الفقه والتأويل والاجتهاد، وإقامة نظام سياسي عادل، والتمسك بالحرية والحقوق والمساواة ، وإصلاح الخطاب الديني وتجديده، والعودة لجوهر الدين، وإعادة غربلة التراث وتطوير نظم التعليم وغيرها.
وقام التيار الليبرالي على أكتاف أحمد فارس الشدياق وبطرس البستاني وشبلي شميل وفرح أنطون وغيرهم ، ونادى بإقامة دولة حديثة بمعاييرها وهياكلها. وتأكيد الأخذ بالعقلانية، وسيادة القانون، وتكافؤ الفرص، وتطبيق الحرية والمساواة والعدالة والديموقراطية، وإقرار الدستور والتمثيل الشعبي وتحرير المرأة.
أما التيار القومي فقد بشر به وحمله إبراهيم اليازجي ورفيق سلوم وأديب إسحاق ونجيب عازوري وجرجي زيدان في التاسع عشر، وعبد الحميد الزهراوي وعبد الغني العريسي وغيرهم في مطلع القرن العشرين ، وقد نادى بإحياء اللغة العربية لأنها موحدة وجامعة بين العرب، وبتدريسها في المدارس الرسمية، وتطبيق اللامركزية، وإعطاء ما يشبه الحكم الذاتي للعرب، والدعوة فيما بعد إلى استقلال العرب ووحدتهم ونهضتهم وإقامة حكم ديموقراطي حر، وما زلنا نردد شعر إبراهيم اليازجي (تنبهوا واستفيقوا أيها العرب فقد طمى الخطب حتى غاصت الركب).
إن المتابع لتطور هذه التيارات يكاد لا يصدق ما وصلت إليه من تراجع خلال المائتي عام الماضية، فبدلاً من أن تتحول النهضة والتنوير إلى حداثة وتستفيد الأمة منها في استكمال التحرر وبناء الدولة الحديثة (بكامل معاييرها) وتحقيق التطور الفكري والسياسي والاقتصادي والعلمي والفني والصناعي، بدلا ًمن هذا تراجعت عن أفكارها التنويرية، وغرقت في ممارسات هي على الأقل مضادة لأفكار وممارسات نشأتها الأولى، وإذا دققنا في الأمر نلاحظ:
استمر التيار النهضوي الإصلاحي الإسلامي في صعوده طوال القرن التاسع عشر، وما أن دخل القرن العشرين حتى بدأ النكوص والتراجع، سواء في أفكاره أم في ممارساته أم في موقفه من الكون والحياة والتطور والنهضة والحداثة. فقد انقلب الشيخ رشيد رضا على الأفكار التي كان يؤمن بها قبل وفاة أستاذيه جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وأصبح نصيراً للخلافة وربما للسلطنة العثمانية بعد إلغائها عام 1924، ومن بعده تراجعت الحركة الإسلامية في مصر عن أفكار الإصلاحيين الإسلاميين إن لم يكن كلها فجلها، وخاصة ما يتعلق منها بعلاقة الدين بالدولة والسياسة، وبالعقلانية والاجتهاد وحقوق المرأة والحرية والديموقراطية وغيرها.
أما التيار الليبرالي فلم يكن أحسن حالاً، فبعد أن ازدهر في النصف الأول من القرن العشرين واغتنى بأفكار طه حسين وأحمد لطفي السيد، وممارسات سعد زغلول ومصطفى كامل وليبراليي سورية ولبنان والعراق وغيرهم، انتهى حين حكم عدة أقطار عربية إلى الفساد والاستبداد، ثم تحول في العقود الأخيرة إلى حليف لحداثة أوروبا (بعجرها وبجرها) مطالباً بالتماهي معها بدونية لامبرر لها، وبالقطع المطلق مع الماضي دون تبصر، واستقر به المقام أخيراً ، في أيامنا ، معجباً ونصيراً ثم حليفاً للمحافظين الأمريكيين الجدد حتى في احتلالهم للعراق، وأخذ أنصاره يبررون الاستعانة بالأجنبي والاستقواء به للخلاص من أنظمتهم السياسية، ولايجدون حرجاً في التعاون مع القوى الأجنبية بزعم نشر الديموقراطية والحرية.
أما التيار القومي، فبسبب مناداته بالنهضة العربية والوحدة العربية، التفت الجماهير العربية حوله في منتصف القرن الماضي ، وأقام دولته في أكثر من بلد عربي، إلا أن أنظمته السياسية كانت شمولية، لم تؤمن بالديموقراطية ولم تحترم الحريات ولا معايير الدولة الحديثة ونزعت إلى الاستبداد، وهكذا انتقل هذا التيار من أيدي اليازجي وسلوم والزهراوي وزعماء المؤتمر السوري الأول (1913) وساطع الحصري وميشيل عفلق فيما بعد ، لينتهي بيد مستبدين وطغاة في الربع الأخير من القرن العشرين، وتحولت شعارات الوحدة العربية إلى شعارات (بلدنا أولاً) وصارت القطرية مقدسة في نظرهذا التيار والديموقراطية ودولة الحداثة مهمشة في أنظمته بل مرذولة.
أتساءل: هل شهدت أمة مثل هذا التراجع والنكوص من قبل تياراتها الثقافية والفكرية والسياسية ، وبدلاً من أن تسير خلال قرنين خطوات إلى الأمام سارت أميالاً إلى الوراء؟ .
البيان