صفحات مختارة

أين أصبحنا من وعي ياسين الحافظ؟

منير درويش
يوم 28 تشرين الأول، تحل الذكرى الـ32 لوفاة الكاتب العربي ياسين الحافظ، منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم أصبحت المسافة طويلة بين ما تبناه الحافظ وأمل في تحقيقه، وبين ما نحن عليه من تراجع لم يكن أحداً يتخيله.
الباحث الفلسطيني مصطفى الولي، وصف ياسين بالمغرد خارج السرب، وقد قصد في وصفه المديح والثناء، وهو صادق في مشاعره ومواقفه منه. إلا أنني أعتقد أن مثل هذا الوصف لم يكن لينطبق على ياسين كمثقف وكاتب من جهة، وسياسي مناضل من جهة أخرى، ذلك لأن الذين يغردون خارج السرب، ربما كانوا معزولين عما حولهم أو وحيدين في أوساطهم، وتلك لم تكن من صفات ياسين، الذي خلف منظومة فكرية، جعلته واحداً من المثقفين العرب البارزين في القرن العشرين.
أما شخصيته فقد اتسـمت بكونه الســياسي المناضل الذي لم يجعل وعيه يدور بين حيطان مغلقة، بل جعل من عمله السياسي وسيلة ليخاطب بها الناس ويتواصل معهم، وهذا ما دفع به إلى السجن ليمضي فيه جزءاً من حياته، ويترك عمله ويذهب إلى لبنان. ضمن تلك المزايا والخطوط لا يمكن للمثــقف والسياسي أن يغرد خارج السرب، بل كان يتناغم مع سرب واسع من المثقفين الكبار، الياس مرقص، وجمال الأتاسي، وعبد الكريم زهور، وسامي الدروبي وغيرهم الكثير ممن عمل معهم ثقافيا وسياسيا، وصاغ معهم الأفكار الرئيسية لمنظومته الفكرية التي تركزت، حول القضايا الرئيسية التالية:
ـ فكرة القومية العربية ومشروعها القومي، كحاضن للأهداف السياسية للعرب وسبيلهم للتحرر والنهضة.
ـ الوحدة العربية، الحاضرة دوماً والمنسية دوماً. وهو لم يكن يتوهم صعوبة تحقيقها في ظل تكريس التجزئة، لكنها عنده راهنة من دون أن تكون بأمر اليوم.
ـ التأخر التاريخي العربي الذي يطرق أبواب الماضي ليس ليبني به المستقبل، بل ليهرب من الواقع ومتطلباته.
ـ الديموقراطية وأثرها في نمو الوطن العربي وتحرره وتقدمه، ودورها في لجم هذا التأخر.
ـ الثورة القومية الديموقراطية ذات الأفق الاشتراكي، الشعار الذي عمل عليه حتى وفاته. (انظر كتاب الهزيمة والايديولوجية المهزومة، وفي المسألة القومية الديموقراطية).
هذه القضايا وغيرها لم تكن تعبر عن رأي فردي يغرد به خارج السرب، ولم تكن أيضاً تعبيراً عن رأي مجموعة صغيرة من المثقفين آنذاك، أو أحزاب معينة، لكنها مثلت التعبير الحقيقي للحس الشعبي للأغلبية الساحقة من المواطنين سواء من استوعب أهدافها أو تلمس شعاراتها أو أحس بها عن بعد.
هذا الرصيد الثقافي غير المحــسوس هـو الذي أعطى منظومة الحافظ أهميتها وجعلها تطبع مرات عدة، وهي التي منحته قوة التشابك الفكري والحوار مع الآخرين الذين لم يكونــوا يختلـفون حول مضمونها، بل حول راهنيتها أو الآليات العمــلية لتحــقيقها. لقد تبنى فكرة القومية العربية على أنها حقــيقة واقعة، فهي بالنسبة له «منظومة علاقات مجتمعية متطورة نســجها تطور تاريخي معين بين أو داخل أعضاء جماعة واحدة، إنها الحركة التاريخية التي ترفع سديماً بشرياً إلى كتلة اجتماعية مندمجة تستحق اسم أمة، وغياب القومية يتجلى في غياب الوعي القومي ونقص الاندماج القومي». وتشكل الوحدة التعبير الحقيقي عن الضرورة التاريخية والمصلحة التي يحتاجها العرب لمواجهة التجزئة والتفتت، والهيمنة والاستغلال، وتجعل منهم قوة عالمية يحسب لها حسابها.
لقد حان الوقت لنسأل، أين نحن من منظومة الحافظ؟ بل وماذا فعلنا من أجلها؟
في ضمير الأمة والشعب تشكل المفاهيم التي تضمنتها هذه المنظومة السبيل لبلوغ المستقبل، لكنه على صعيد الوعي فإن عددا من الذين تبنوها وساهموا في صياغتها ودعم توجهاتها تخلوا عنها وانحدر بعضهم إلى مستوى من الوعي أدنى بكثير مما كان يطمح له. إذ لم يكن يخطر بباله أو بالنا، أنه سيأتي اليوم الذي يلجأ فيه بعض المثقفين والسياسيين للتشكيك بوضع هذه الأمة وإثبات وجودها أو عدمه، في الوقت الذي تظهر فيه مجموعات تتغنى بهويتها القومية وتدافع عنها وتتهم العرب بالشوفينية إذا دافعوا عن أمتهم.
ولم يخطر بباله وبالنا أن الدولة الوطنية التي تكرس التجزئة وتبررها، ستحل محل الدولة الأمة في ظل التكتلات العالمية العملاقة، وفي ظل التهديد المستمر باستخدام البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الذي يمكن أن يلغي الدولة الوطنية إن لم تكن محمية بأمة بجرة قلم أو يخلق لها مشاكل جمة.
ولم يكن أحدنا يتصور أن يقف المثقفون والسياسيون العرب موقف المتفرج والصامت على الانهيار البطيء لوحدة اليمن التي كنا نطمع أن تبقى نموذجاً لوحدات قادمة، أو ننتظر بترقب تمزق السودان والتسليم بانفصال جنوبه عن شماله الذي أصبح شبه حقيقة قبل أن يجري الاستفتاء حوله.
عندما عقد مؤتمر دمشق حول العروبة والمستقبل، نيسان 2010 كان المحور الأساسي يدور حول وجود أو عدم وجود أمة عربية أو قومية عربية تشكل مشروعا سياسيا ضمن المشروع القومي لتحقيق أهدافها وتحرير أراضيها وبناء المجتمع الديموقراطي فيها وهذه أيضا من الأمور التي لم تكن لتخطر على البال قبل الآن.
لم يتجاوز ياسين الدولة القطرية التي يسميها البعض بالدولة الوطنية، ولم يتجاهل وجودها ولم يكن واهماً بمدى عمقها ورسوخها، ومصلحة الأنظمة في استمرارها، ولم نكن بحاجة للوحدة أصلا لولا وجود التجزئة، وهذه الدولة التي أصبحت بتكوينها وظروفها وحدودها عائقاً أمام تطور المشروع النهضوي العربي، لكن الذين هجروا المشروع القومي لجأوا لصياغة مفهوم الدولة الوطنية في مواجهة دولة الوحدة، ويبرر أحدهم هذا التوجه، بأن الطالب لا يمكن أن يحصل على الشهادة الثانوية قبل أن يحصل على الشهادة الإعدادية، وكأن قضية الوحدة تعيش في الفصول الدراسية ويحكمها للتطور الموضوعي فقط. أو ان وحدة الدولة الأميركية أو الألمانية أو الإيطالية خضعت لهذا التسلسل عند تحقيقها، أو أن البلدان التي تقسمت كانت قد نالت الثانوية قبل الإعدادية فعوقبت على ذلك.
عندما تبنى شعار الثورة القومية الديموقراطية كان يقصد، تحديداً ثورة القومية العربية التي أرادها أن تقام على أساس ديموقراطي، ببعدها الاشتراكي، لتطال في مضامينها غالبية الشعب ومصالحه وقضاياه.
حقيقة أين نحن من وعي الحافظ ومنظومته؟
هل جعلنا من وعيــنا المطابق برنامــجاً للممارسة، أم بقي في إطاره النظري وحسب؟. وما مـعنى أن ننادي بالديمــوقراطية ونطالب بها ونحن نخــفي كرباجاً في جيــوبنا؟ ماذا تعــني لنا حرية الرأي والرأي الآخر، ونحن نقول له «أيد رأيك واصرخ كما تشاء، فأنا لست مستعداً لسماعك»؟ ما معنى أن ندعو لتحرر المرأة ونحن نحولها إلى حرمة؟. كيف نكون وحدويين وندعم الانفصال أو نبرره؟ ندعو لوحدة المجتمع ونرتد نحو انتمائنا العائلي والطائفي او العشائري. ننادي بالعدالة والمساواة، ونمـارس أسوأ أنواع الاستغلال.
لقد تحول تأخرنا لتأخر مضاعف، ووعينا المفوت لوعي خارج إطار العصر. تحولنا من رفض الاستعمار ومقاومته إلى التبعية له، لا بل لم نتوان عن تأييده أو الصمت عنه كما فعلنا عند الاحتلال الأميركي للعراق.
إذا أردنا لأمتنا ان تتقدم فلا بد أن نجيب عن هذه الأسئلة، ولا بد لنا من إعادة صياغة مشروعنا القومي العربي بما يتلاءم مع متطلبات العصر ويحقق مصلحتنا العربية، آخذين بالاعتبار ان منظومة الحافظ في هذا المجال تشكل دليلاً صالحاً لنا.
[ كاتب من سوريا
السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى