“لاجديد” أيها القَتَلَة
سعد محيو
“لاجديد” . هذا كان تعليق بعض المؤسسات الحكومية العراقية على وثائق “ويكيليكس” عن محصلات الغزو الأمريكي من قتل وجرح نحو 300 ألف شخص، وجندلة 700 مدني على الحواجز العسكرية، وإلقاء السجناء إلى أشداق “كتيبة الذئاب” العراقية التي شكّلتها “السي . أي . آي” لممارسة التعذيب والترهيب .
“لاجديد” . هذا ما كرره المسؤولون الأمريكيون الذين لم يرف لهم جفن وهم يقرأون نصوص الوثائق المُرعبة، التي لم يروا فيها من مستجد سوى إبداء القلق على صحة وسلامة الجنود والموظفين الأمريكيين .
“لاجديد” . وهذه المرة لدى الأمم المتحدة وهيئاتها القضائية، التي أبدت في السابق نشاطاً فائضاً وحماسياً لمحاكمة مجرمي الحرب في يوغوسلافيا السابقة ورواندي والسودان، وأنشأت محكمة خاصة في لبنان لمجرد ملاحقة جرائم اغتيال فردية، لكنها لم تذرف نقطة دمع واحدة على مئات آلاف العراقيين الذي قضوا، ولايزالون، بسبب وحشية الحرب .
وفي هذه الأثناء، يواصل جورج بوش وديك تشيني ودونالد رمسفيلد، المسؤولون عن كل هذه الخروقات الفاضحة للقانون الدولي الإنساني ولشفافية القيم الديموقراطية، الاسترخاء على الشواطئ اللازوردية بحماية حراب دولتهم التي تُحصّن مسؤوليها وجنودها ضد أي ملاحقات قضائية دولية .
والمذهل هنا أن الإعلام الأمريكي يجد متسعاً من الوقت للتبحّر في قصة مواطن أمريكي واحد اضطهده المدعي العام أشروفت إبان عهد بوش، ولا يجد أي وقت للتطرق إلى مأساة ملايين العراقيين الذين قلب الغزو العسكري حياتهم إلى جحيم أسوأ من جهنم الاستبدادية الصدّامية .
إنه عالم قاسٍ حقاً . عالم أبطاله الحقيقيون اللصوص، والقتلة، وزبانية الأجهزة الاستخبارية الاستبدادية، الذين يُشكّلون النخبة الحاكمة الحقيقية في معظم دول العالم .
في أواخر التسعينات، صدر في لندن كتاب رائع (من أسف سقط اسمه من الذاكرة)، يتحدث عن كيفية نشوء الديمقراطية . يقول إنه حين يقوم فريق من اللصوص برفع سيف التحدي في وجه الحاكم اللص، تنشأ ثلاثة احتمالات: إما أن ينتصر الحاكم عليهم فيبيدهم أو يخضعهم ويواصل سرقاته منفرداً، أو ينتصر عليه المتمردون فيُنصّبون لصاً من بينهم كحاكم جديد، أو تُسفر المعركة عن توازن قوي بين الطرفين فتنشأ الديموقراطية .
قد يقول البعض إن ثمة مبالغة في التشاؤم على هذا النحو من أوضاع الاجتماع البشري . لكن، ما العمل إذا ما كانت الأحداث والتطورات تُثبت كل يوم أن المشروع البشري مشروع فاشل بالفعل، وأنه حرثٌ احتكاري في بحر نخب بلا أخلاق، ولامبادئ، ولا قيماً عليا أو دنيا؟
وكيف يمكن لنا أن نتفاءل بمستقبل هذا المشروع، فيما شعب عراقي من 25 مليون نسمة (وقبله الفلسطيني والفيتنامي والأرمني وعشرات الشعوب الأخرى) تُقطّع أوصاله، وتُعذّب نساؤه، ويُجوّع أطفاله، ويُقتل شبابه، ويُدمّر نسيج مجتمعه طيلة عشرين سنة كاملة، فيما زبانية هذه الإبادة الجماعية يسرحون ويمرحون؟
“فاينانشال تايمز” لامست هذا الواقع قبل يومين حين دعت إلى رفع الغطاء عن الممارسات اللاإنسانية للحرب العراقية . لكنها، وهنا المذهل مجدداً، لم تفعل ذلك انطلاقاً من اعتبارات إنسانية بل لأنها رأت أن اللاشفافية قد تعرقل فرص الغرب لشن الحروب لاحقاً .
إنه عالم قاسٍ حقاً . عالم لاجديد فيه بالفعل، لأن ما يجري فيه هو تكرار لجرائم “أخوة” اللصوص والقتلة الذين يحكمون سعيداً كوكب الأرض .
الخليج