صفحات العالم

الوثائق وأسرارها الشائعة جداً

حسن شامي
المناظرة التي اندلعت إثر نشر موقع «ويكي ليكس» وبضع صحف عالمية معروفة لحوالى أربعمائة ألف وثيقة عن الحرب في العراق، قد تتحول إلى لغط، أي إلى حفلة تراشق خطابي وتبادل اتهامات لا رأس لها ولا ذنب. ويخشى بالفعل أن يصبح اللغط الناجم عن تسريب الوثائق هو الحدث بحيـــــث لا يعود للحدث الفعلي، وهو احتلال العراق وتمزيقه في ظل شروط معينة ووفق سياسات محددة، مداخل ومخارج معلومة أو حتى قابلــــة للعلم والمعرفة. ومثل هذا اللغط من شأنه أن يفضـــــي إلى العدمية السياسية، ويبدو أن حظــــوظ هذه العدمية تتزايد في المنطقة، ليس من دون تنويعــــات ونبرات خلاصية متفاوتة، في أوساط النخب الحديثة كما في أوساط الأصوليات الدينية والمذهبية. لا أحد يشكّك في أن تسريب الوثائق ونشر منتخبات منها في كبرى الصحف العالمية، وعبر قناة «الجزيرة» أيضاً، كان ضربة موفقة، من الناحية الإعلامية في الأقل.
ولهذا الاعتـــبار بالذات انصبّ بعض اللغط على شخصية صاحب موقع «ويكي ليكس» ومؤسسه جوليان أسانج وعلى هدفه من التسريب الحالي، وهو الثاني من نوعه بعد نشره قبل ثلاثة أشهر أكثر من سبعين ألف وثيقة عن حرب أفغانستان. قد يكون الرجل قرصان كومبيوتر (هاكر) بالفعل ويحقق من خلال هذه القرصنة بداوة الكترونية تحاكي حياة الظعن والتنقل التي عرفهــــا في طفولته مع أمه البوهيمية والمتمردة على التقاليد. وقد يكون مناضلاً شرساً عن حريــــة التعبير والنشر في زمن معولم تصنع فيــــه مجموعات الضغط والمصالح «الأحداث» التي تناسبها وتفرض قوالب لكيفية إدراك الحدث المفترض وتمثله. وقد يكون مغامراً مولعاً بمشاكسة المتنفذين والمتسلطين على طريقة روبــــين هود، فتمثل شبكات المواقع الالكترونية فــــي صورة الغابة الحديثة الصالحة لأداء ضروب من الفروسية ومن تجديد صورة البطل. قد يكون أسانج خليطاً من كل هذا، وقد يكون شيئاً آخر. فنحن في عالم تلتبس فيه الحدود أكثر فأكثر بين الواقع والخيال وبين الحقائق والافتراضات. وقد يكون هذا كافياً للتعرف على بعض مواصفات الدونكيشوتية الحديثة جداً حتى في نسختها الشبحية الالكترونية. بعبارة أخرى، نحن أمام رواية عن حرب آراء يتواجه فيها لاعبون لا يتقيدون في نسيج اجتماعي ووطني.
سنضع جانباً عاصفة الغبار الإعلامي والأخلاقي التي أثارها نشر عدد ضخم من الوثائق الموصوفة بأنها سرية، ولكن من دون التقليل من أهمية الجدل المثار حول التبعات السياسية والقانونية للتسريب. فقد اعتبر البنتاغون الوثائق بمثابة ممتلكات مسروقة من الدولة الأميركية، وصدرت تصريحات عن مسؤولين كبار في الإدارة الأميركية تتحدث عن تعريض حياة الجنود وأشخاص آخرين للخطر بسبب التسريب والنشر مما يعني إمكانية استرداد المسروقات ومقاضاة المتهمين بالتسريب. وكان من الصعب أن يتجاهل المسؤولون الأمميون وقائع الانتهاكات اليومية التي حفلت بها الوثائق، فطلب بعضهم من الإدارة الأميركية إجراء تحقيق حول هذه الانتهاكات ومحاسبة المسؤولين عنها وإحالتهم على القضاء. لكن صاحب التصريح نفسه لاحظ أن مثل هذا التحقيق لا يمكن إلا أن يكون أميركياً ومن غير الممكن حصول ملاحقات من قبل المحكمة الجنائية الدولية لأن الولايات المتحدة لا تعترف بهذه المحكمة. وقد حصل جدال مشابه إثر افتضاح استخدام التعذيب والإذلال في سجن «ابو غريب» إضافة إلى الفضيحة القانونية والأخلاقية التي نضح بها معتقل غونتانامو الذي لم يقفل بعد بالرغم من وعود الرئيس الجديد أوباما.
ما يعنينا أكثر هو القيمة التأريخية للوثائق، أي مدى تضمنها لعناصر ومعطيات تسمح أو تساهم في صوغ رواية تاريخية عن الحرب العراقية تعصى على الاستهلاك السريع المصحوب غالباً بالتأفف اللحظوي شبه الخاطف وضرب الكف على الكف أن غيض الماء وقضي الأمر. فالغبار الإعلامي سيهدأ ويتساقط والصياح الأخلاقي سيتوقف في انتظار رزمة جديدة من الوثائق التي سيقال عنها هي الأخرى إنها وقائع وشهادات عيانية عن عادية الشر والفظاعة والعنف العاري. لا يمنعنا هذا من الظن المتشائم بأن الطابع الاستعراضي للوقائع سيتجدد حاملاً بعض الغبار واللغط العابرين، وهكذا دواليك.
قبل الخوض في القيمة التأريخية للوثائق ينبغي التوقف عند الوجه الفضائحي الكاشف أو الزاعم إماطة اللثام وتعرية المستور. ويسعنا ها هنا أن نوافق من دون تردد على تعليقات جبهة التوافق السنية العراقية التي قللت من حجم المعلومات التي نشرها موقع «ويكي ليكس» عن الانتهاكات الأميركية خلال غزو العراق. ورأى نائب عن الجبهة المذكورة أن الوثائق السرية التي نُشرت حتى الآن حول انتهاكات القوات الأميركية والعراقية «لا جديد فيها وهي معلومات متداولة لدى العراقيين وفي وسائل الإعلام، وبالتالي فإن ما نشر أمر عادي جداً ولا جديد فيه، ولكن أتوقع عندما يتم التعامل مع وثائق أخرى أكثر سرية فإن الموقع ربما يضطر تحت التهديد لإيقاف نشر المعلومات».
لنقل إن الوثائق المسرّبة، وبحسب العينات التي نشرتها وسائل الإعلام، عبارة عن تقارير يومية وشهادات انطباعية أحياناً كتبها بعبارات مقتضبة، باردة وإجمالية، جنود وضباط لدى عودتهم من مهمة أو من دورية. وقد يقلل هذا من قيمتها التوثيقية. فليس بين هذه التقارير اليومية لا تقارير قيادية عن أهداف الحرب والاحتلال ومجرياتهما ولا تقارير أو وثائق استخباراتية. وعليه لا مبالغة في القول إن ما احتوته التقارير ليس سوى أسرار شائعة ومعلومة عن فظائع تفقأ العين لمن يرى.
من المفيد، في المقابل، أن نلتفت إلى تفاوت الاهتمام بهذا الجانب أو ذاك بين وسيلة إعلامية وأخرى. فإذا كان الاهتمام في الصحف الغربية انصبّ بعض الشيء على مسؤولية الاحتلال عن الانتهاكات، نجد أن قناة الجزيرة القطرية صبت اهتمامها، على غير عادتها، على الدور الإيراني وتسليح الميليشيات الشيعية وضلوع نوري المالكي في انتهاكات معينة. وهذا نموذج على طريقة تسعير الحدث الإعلامي في أسواق الصرف الإقليمية والدولية. وهذا ما يعرفه ويختبره العراقيون كل يوم وباللحم الحي. وهذه الوضعية تذكرنا بالمناظرة التي أطلقها المؤرخون الإسرائيليون الجدد حول النكبة. فما اعتبر فتحاً في المكاشفة التاريخية الموثقة بدا للفلسطينيين مجرد استعادة لروايتهم عن النزوح والتطهير العرقي. الغريب، خصوصاً في الغرب المتنور، أن يستسلم الناس لاصطناع السذاجة والكذب إلى حد استسهال تصديقهما. وهذا فنّ قائم بذاته يسأل عنه المحافظون الجدد وأمثالهم.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى