إعلام يكشف وإعلام يخبىء ويطمس
أمجد ناصر
لم تنته تداعيات فضيحة ‘ويكيليكس’ بعد. فصولها ستتوالى، على ما يبدو، تباعاً. فلم تظهر من جبل الجليد سوى قمته حتى الآن، والمخفي أعظم. هناك بحر من الأسئلة التي تطرحها هذه الكشوفات الشجاعة للموقع الامريكي ‘ويكيليكس’ من نوع: من يحاسَب على الجرائم المقترفة في العراق؟أين دور المجتمع الدولي الذي جرت، باسمه المضلل، الحرب على افغانستان والعراق في المقام الأول؟ كيف يبقى في الحكم ديكتاتور صغير وبائس مثل المالكي ضرب رقما قياسيا في التشبث بالسلطة بعد كل هذه الفضائح؟ لِمَ وقف العالم العربي متفرجا، أو عاجزا في افضل الأحوال، أمام الجرائم الجماعية والفردية التي تعرض لها العراقيون قبل سقوط بغداد وبعدها وصولاً إلى يومنا هذا؟ كيف لم تحدث هذه الكشوفات الهزة المتوقعة في المجتمع العراقي، وبالأخص وسط نخبه السياسية والثقافية؟ ألا ينبغي التوقف، مليّاً، أمام الدور والتخريبي الذي تلعبه طهران في العراق؟
هذا غيض من فيض الأسئلة التي تطرحها كشوفات موقع ‘ويكيليكس’ الشجاعة، ولكن هناك سؤالاً واحدا يبدو نافلا بين تلك الأسئلة. هل فكرنا بالتالي: أن كل الكشوفات عن الجرائم التي جرت في العراق (وحتى في فلسطين وافغانستان) لم تقم بها وسائل الاعلام العربي التي تتكاثر، صحفا واذاعات وفضائيات ومواقع الكترونية، كالأعشاب الضارة، بل قامت بكشفه، ونشره على الملأ، وسائل إعلام غربية، وتحديداً، أمريكية!
***
الغرب الذي نوسعه هجاء، لمناسبة ومن دون مناسبة، هو الذي كشف لنا عما فعلته أدواته السياسية والعسكرية خارج بلادها. فالغرب ليس كتلة مصمتة، ولا صفا واحدا، بل هناك، بداهة، أكثر من غرب واحد داخل الغرب نفسه. هناك غرب الناس العاديين، وغرب المؤسسة وغرب المصالح وغرب الفكر والفن وفعل الخير. فلولا وجود عدد من الصحافيين والكتاب الغربيين النزيهين أو الذين يحترمون مهنتهم ويعملون على صون مصداقيتها لما عرفنا الكثير مما جرى في حروب وتدخلات الغرب في الخارج بدءا من فيتنام وانتهاء بالعراق.
كيف يمكن أن تتحول انتهاكات سجن أبو غريب الفظيعة إلى فضيحة أخلاقية مدوية لو لم يتناولها الصحافي الامريكي الشجاع سيمور هيرش، ثم تواصل وسائل إعلام غربية أخرى التوسع فيها لاحقا؟ كيف كان ممكنا لنا أن نعرف جرائم الاحتلال الامريكي في الرمادي، ساحة النسور، الطفلة عبير الجنابي، الأسلحة المحرمة دولياً إلخ.. لولا وسائل الإعلام الغربية؟
لقد كانت الانتهاكات الأمريكية تتوالى وراء قضبان ذلك السجن سيىء السمعة على مدار وجود قوات الاحتلال الامريكية في العراق ولم تقم وسيلة اعلام عراقية او عربية بالكشف عنها، كما كانت جرائم مرتزقة الاحتلال من الشركات الأمنية تحدث علنا في شوارع بغداد وغيرها من المدن العراقية، ولا تكاد تشكل خبرا يذكر في الإعلام العربي. لا يكمن السبب، كما يمكن أن يجادل البعض، في توافر امكانات مادية وقدرات على الحركة للصحافي الغربي لا تتوافر للصحافي العربي. هذا، بالطبع، سبب مهم ولكنه ليس السبب الأهم. ليس هذا هو الفارق النوعي الكبير بين إعلامنا وإعلامهم، فلدينا وسائل إعلام تتوافر على إمكانات مادية كبيرة وطاقم بشري محترف. أزعم أن الفارق يكمن في طبيعتي أداء مختلفتين لإعلامنا وإعلامهم، ففي حين يقوم أداء الإعلام الغربي (أو الرصين والجاد منه) على الكشف، يعمل إعلامنا، النافذ والمسيطر، على الطمس والإخفاء.
لقد اخترعنا، عربياً، وظيفة للإعلام من غير طبيعته: الطمس والتعمية. هذا، تقريباً، ما يفعله معظم إعلامنا حيال القوى السياسية المتنفذة التي تقف وراءه، فيتم التغاضي عن أخبارها (السلبية) وتطمس انتهاكاتها بحيث تبدو، إن قامت وسيلة إعلام ما بنشرها، مجرد فبركة. فالخبر هو الذي تنشره تلك الوسائل وما عداه تلفيق، والحقيقة هي ما تقدمه لجمهورها وما عدا ذلك فبركة! إن كان هناك كشف وفضح تقوم به وسائل الإعلام هذه فهو، على الأغلب، ضد الطرف الآخر. الطرف الخصم سواء كان هذا الطرف شقيقا أم أجنبيا.
***
لم تكن معظم وسائل إعلامنا سعيدة بتسريبات ‘ويكيليكس’ كأنها والإدارة الامريكية في موقع واحد. كأنها هي المتضررة من تلك الكشوفات الرهيبة التي لا تفضح الادارة الامريكية فقط بل والقوى العربية المتعاونة معها. ربما باستثناء ‘الجزيرة’ فإن معظم فضائياتنا العربية مرت على تسريبات الموقع الامريكي مرور الكرام. شيء يشبه رفع العتب. فالفكرة نفسها، فكرة أن يكون للوسيلة الاعلامية هذه المهمة الخطيرة، تخيفها وتكشف عجزها أو تواطؤها. لذلك لم تتوسع في كشف ‘المستور’. إكتفت بالإخبار عنه كي لا تبدو خارج ما يحدث في العالم.
مرة أخرى تضرب وسائل الإعلام الغربية مثلا في الشجاعة.
مرة أخرى تعلمنا الفارق بين الاستقلال المهني والأخلاقي والتبعية.
فوسائل الإعلام ليست ببغاوات تردد ما تتلقنه.
إنها هي التي تصنع الحدث والكلام.
فمتى نتعلم الكلام ونصنع الحدث؟
القدس العربي