صبحي حديديصفحات سورية

طريق دمشق واعوجاج الشارع المستقيم

null
صبحي حديدي
لعلّ البروفيسور يارون هاريل، أستاذ التاريخ اليهودي في جامعة بار إيلان، هو اليوم الاختصاصي الأبرز في شؤون يهود المشرق العربي عموماً، ويهود سورية بصفة خاصة؛ ولائحة مؤلفاته تدلّ على نطاق اهتماماته: ‘المكيدة والثورة في صفوف يهود دمشق وحلب وبغداد، 1744ـ1914’، و’أسفار حلب: الأدب الحاخامي لأعلام حلب’، و’يهود حلب: تاريخهم وثقافتهم’. ولهذا فإنّ صدور الترجمة الإنكليزية لكتابه ‘تحوّل يهود سورية، 1840ـ1880’ حدث جدير بالمتابعة، لأنه يسعى إلى إعادة قراءة الإصلاحات العثمانية خلال تلك الحقبة، وسلسلة الآثار الإيجابية التي خلّفتها على حياة الجاليات اليهودية في سورية.
واياً كانت مظانّ المرء في شخص هاريل المؤرّخ، أو في أعماله، فإنّ خياراته المنهجية تُعدّ المثال النقيض للغالبية الساحقة من الأبحاث الإسرائيلية، وغالبية الأبحاث الأوروبية، حول يهود سورية تحديداً. فالشائع، في مستوى أوّل، هو التطبيق الميكانيكي لمقولات أوروبية مكرورة، وتنميطية، عن سابق قصد وتصميم، حول قمع اليهود في البلدان العربية، إلى درجة الحديث عن ‘تطهير عرقي’ ضدّهم (كما حدث قبل سنوات، ليس بلسان صهيوني موتور، بل بقلم جيفري ألدرمان، البروفيسور البريطاني البارز ونائب رئيس الجامعة العابرة للقارّات في لندن، في ردّ على عمدة لندن السابق كين لفنغستون). المستوى الثاني هو الدمج الخبيث، عن سابق قصد وتصميم هنا أيضاً، بين الحاكم والمحكوم، وبين السلطة والشعب، بحيث يجري تأثيم سورية الشعب والبلد والثقافة قبل، وربما أكثر من، نظام الإستبداد الذي يحكم شعبها.
تلك ستراتيجيات، لأنها ليست محض تكتيكات، يُراد منها التعتيم على الحقيقة الأخرى، الكبرى: عجز الجاليات اليهودية عن الإندماج في أية ثقافة وطنية، شرقية أو غربية، والعزوف عن بلوغ درجة عالية أو كافية من حسّ المواطنة والمشاركة المجتمعية، ورفع الولاء لإسرائيل فوق كلّ ولاء. والمرء يتذكّر ذلك الإعلان الذي واصلت ‘رابطة مكافحة الإفتراء’ الأمريكية الصهيونية نشره في صحيفة ‘نيويورك تايمز’، والذي يقول: ‘سورية تحتجز اليهود ضمن أقسى الشروط… في عقر دارهم’، في اليوم ذاته الذي شهد لقاء حافلاً جمع حافظ الأسد وإبراهيم حمرا، كبير حاخامي يهود سورية آنذاك، ليس في القصر الرئاسي، بل في… بلدة القرداحة، مسقط رأس الأسد!
في ربيع العام ذاته، 1992، قال الدكتور نسيم حاصباني، الطبيب خرّيج جامعة دمشق والناطق الرسمي بإسم يهود سورية في حينه، إنّ مغادرة قرابة 700 يهودي على إثر قيام السلطات السورية برفع قيود السفر عنهم ‘ليست خروجاً، بل حيازة لحقوقنا’. ونقلت رويترز عن حمرا قوله إنّ ‘التغيير الهائل’ في التفكير السوري جاء في أعقاب اجتماع بين الأسد والمجلس اليهودي السوري، في مناسبة قيام الوفد بتقديم التهنئة بالولاية الرئاسية الرابعة. وقال الحمرا: ‘كلّ ما طلبه الوفد، نفّذه الرئيس الأسد’. فاته أن يذكر، أو تعمّد إغفال، التفصيل الهامّ الذي يقول إنّ الرفع الأوّل للقيود على الهجرة تمّ استجابة لطلب الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، سنة 1977.
وفي سنة 1990 كان الصحافي الأمريكي المعروف ملتون فيورست ـ اليهودي، للتذكير المفيد ـ قد نشر تحقيقاً مطوّلاً في مجلة ‘نيويوركر’، اقتبس فيه عبارة من حاصباني تؤكد أنّ اليهود ‘متساوون في الخضوع للرقابة الأمنية وإجراءات السفر مع مجموع المواطنين السوريين، مع فارق أنهم يمتلكون حظوة خاصة لدى السفارات الغربية عند التقدّم لطلب التأشيرة’. قبلها كانت منظمة العفو الدولية قد أطلقت حملة واسعة للإفراج عن عشرة يهود احتُجزوا وهم يزمعون مغادرة سورية خلسة إلى إسرائيل. وخلال أقلّ من سنتين بعدها، تمّ إطلاق سراح أربعة منهم، وحُكم على أربعة آخرين بالسجن سنتين جرّاء اعترافهم بالتخطيط لرحلة إسرائيل، وبقي إثنان منهم دون محاكمة حتى أفرج عنهما في مناسبة الولاية الرئاسية الرابعة. آنذاك، للمقارنة الدالة، كان آلاف المعتقلين السياسيين السوريين يقبعون في سجون النظام دون تهمة أو محاكمة، بعضهم منذ 20 سنة (القيادة البعثية السابقة)، وبعضهم منذ 15 سنة (مختلف مجموعات الإخوان المسلمين)، أو 12 سنة (قيادة وأعضاء ‘الحزب الشيوعي السوري ـ المكتب السياسي’)، و10 سنوات (قيادة وأعضاء ‘حزب العمل الشيوعي’)، فضلاً عن الناصريين والبعثيين (قيادة قومية) ومجموعات من العرب الفلسطينيين والأردنيين واللبنانيين…
تلك المقارنة أعطت الحاخام حمرا الحقّ في أن يفرح ويتهلل، فلا أحد من أبناء رعيّته قضى تحت التعذيب في أقبية المخابرات السورية (كما حدث مع العشرات من أعضاء التنظيمات السياسية المعارضة)، وعناصر ‘سرايا الدفاع’ و’الوحدات الخاصة’ والمفارز الأمنية المختلفة عاثت قتلاً وتدميراً في تدمر والمشارقة وجسر الشغور وحماة، فلم يسقط رأس يهودي واحد من أحفاد شاول الطرسوسي. لقد واصلوا الحياة الآمنة في دمشق، يعملون ويتعبدون ويعيشون في كنف العهد الذهبي ذاته الذي قطعه الملك الآرامي بنهدد إلى الملك اليهودي آخاب قبل أكثر من 2000 سنة: ‘إني أردّ المدن التي أخذها أبي من أبيك وتجعل لنفسك أسواقاً في دمشق كما جعل أبي في السامرة’.
فإذا كانت هذه هي صيغة ‘التطهير العرقي’ في الأزمنة الحديثة، فماذا عن الأزمنة الأخرى؟ ليس بجديد التذكير بأنّ اليهود عاشوا في وئام وسلام وطمأنينة بين ظهراني أبناء سورية (أو حيثما تواجدوا في العالم العربي) منذ غابر العصور، كما تعترف الموسوعة اليهودية ذاتها. لقد هاجروا تحت ضغط نبوخذ نصّر إلى فارس وآسيا الوسطى، قبل أن تصل أولى موجاتهم إلى حوران ودمشق وساحل المتوسط الفينيقي. شاول الطرسوسي، أقدم جدّ توراتي معروف ليهود سورية، كان ‘ينفث تهديداً وقتلاً على تلامذة الربّ، فما وجد أناساً من الطريق رجالاً ونساء إلا وساقهم موثقين إلى أورشليم’، حسب الإصحاح التاسع من ‘أعمال الرسل’. لكنّ اليهود هم أنفسهم الذين تشاوروا لقتل شاول (ملكهم السابق، والذي سيصبح بولس الرسول بعد أن استجاب لنداء يسوع بواسطة حنانيا الدمشقي)، فأنقذه التلاميذ حين أنزلوه من السور في سلّة!
والموسوعة اليهودية تشير إلى أنّ اليهود لم يخرجوا عن إجماع السواد الأعظم من السكان في الترحيب بالفاتحين المسلمين، وسرعان ما تحسنت أحوالهم وازدهرت تجارتهم، وتوطدت الثقة بينهم وبين الحكام المسلمين. وعلى سبيل المثال، في أعقاب انحلال الخلافة العباسية والخراب الذي لحق بالعراق، كان يهود سورية على درجة من الدعة والجاه سمحت لهم باستقبال الآلاف من يهود العراق، الأمر الذي أطلق يدهم في شؤون الصيرفة والصناعات الحرفية كما يذكر المقدسي في ‘أحسن التقاسيم’. وبعد أن فتح الفاطميون مصر وبسطوا نفوذهم على جنوب سورية، أصبح يعقوب بن كلّس اليهودي أوّل وزير للعزيز، فلعب دوراً كبيراً في سياسة الدولة المالية والإدارية، وبلغ شأناً رفيعاً جعله لا يتردد في تسمية اليهودي مناشيه بن إبراهيم القزّاز حاكماً على سورية (كان اليهود آنذاك يقيمون في دمشق وحلب وصور وطرابلس وجبيل وبعلبك وبانياس). ولا ضرورة لإعادة تكرار ما تمتّع به اليهود من رخاء وحرّيات في العهد الأيوبي وعقود الحملات الصليبية، وهذه تفاصيل يسردها بإسهاب الشاعر العبراني يهوذا الحريزي.
الوقائع الأخرى اللاحقة ليست أقلّ مغزى: الشاعر اليهودي موسى بن صموئيل الدمشقي رافق أحد الوزراء المملوكيين في رحلة الحجّ إلى مكة، وفي العام 1506 أنشئت أوّل مطبعة عبرية في دمشق، وفي منتصف القرن الثامن عشر عُيّن شاول فرحي صرّافاً (أو وزير مال) لدى والي دمشق، وخلفه إبنه حاييم على المنصب، وفي غضون ذلك تعاون يهود دير القمر وحاصبيا مع قوّات الأمير بشير الشهابي في قمع الثورة الشعبية ضدّ عبد الله باشا، وحين دخل إبراهيم باشا سورية في العام 1832 أبقى على صرّاف دمشق اليهودي الحلبي يحيى أفندي. وبالطبع، هنالك حكاية ‘حادثة دمشق’ التي وقعت سنة 1840، حين اتُهم اليهود بقتل الأب توما الكبوشي وخادمه إبراهيم عمارة، لاستخدام دمهما في صنع خبز الفطير اليهودي كما شاع في التفكير الشعبي. ومن الثابت أنّ السلطان عبد المجيد تدخّل على الفور وأصدر الفرمان الذي أعلن براءة اليهود من تهمة الدم، وحذّر من التعدّي على ‘الملّة الإسرائيلية’.
بيد أنّ التحوّل الحاسم بدأ مع تبلور الفكرة الصهيونية وفتح سؤال الهوية في الشتات، حين انقسم يهود سورية إلى مجموعة حلب التي نادت بضرورة الهجرة إلى فلسطين لبناء دولة إسرائيل، ومجموعة دمشق التي كانت قريبة من خطّ ‘اليهود الأوغنديين’ الذين وافقوا على فكرة التاج البريطاني بإقامة دولة يهودية في أوغندا. ولقد تمتع يهود حلب بدعم خارجي واسع، فأنشأوا مطبعة وأصدروا في عام 1921 أوّل صحيفة يهودية بالعربية تحت اسم ‘العلم الإسرائيلي’، ثمّ جرى تبديل إسمها في عام 1946 إلى ‘السلام’.
مَنْ يناقض هذه الوقائع؟ الأكيد أنّ أياً من هؤلاء اليهود الثلاثة الوجهاء لن يفعل: الحاخام حمرا الذي هاجر إلى أمريكا، والحاخام خضر شحادة كباريتي الذي حلّ محلّه، ورجل الأعمال البارز يوسف جاجاتي؛ العكس هو الذي ينبغي أن يكون صحيحاً، إذا حكّم الثلاثة ضمائرهم، بافتراض أنها مستيقظة. وذات يوم كان كريستوفر هتشنز، الصحافي المعروف قد تجشّم عناء السفر إلى دمشق ليتأكد بنفسه من أنّ حكاية تأييد يهود سورية لحافظ الأسد لم تكن فبركة إعلامية رسمية، أو مظهر نفاق ذاتي ناجم عن الخوف أو الضغط. ولقد وقف في ‘الشارع المستقيم’ دون سواه، طريق دمشق الأشهر الذي شهد تحوّل شاول (ملك اليهود المتعطّش للدماء) إلى بولس الرسول (حامل رسالة يسوع إلى آخر أرجاء المعمورة)، وشهد بأمّ عينيه مرور التظاهرة اليهودية التي تصدّرها الحاخام حمرا ورُفعت فيها لافتات تفتدي الأسد بالروح وبالدم. وبعد أن اجتمع بأقطاب يهود سورية على حدة، بعيداً عن الرقباء والعسس، خرج بالنتيجة التالية: إنهم يحبّونه كما يحبّه أيّ بعثي، وأكثر أحياناً!
وهذا لا يعني أنهم يحبّون وريثه أقلّ، رغم تصريح بشار الأسد الشهير خلال استقبال البابا يوحنا بولس الثاني في دمشق، سنة 2001، عن يهود ‘يحاولون قتل كل مبادئ الديانات السماوية بنفس العقلية التي تمت بها خيانة السيد المسيح وتعذيبه’. ذلك لأنّ مزاج صاحب التصريح قد تبدّل، وصار ‘حضارياً’ أكثر في الحديث عن اليهود، ومتسامحاً لا يجد غضاضة في مصافحة رئيس الدولة العبرية على رؤوس الأشهاد. الدليل، من جانب آخر، هو الدفاع الحارّ الذي يلقاه الأسد الابن من الحاخام حمرا نفسه، متحدثاً من قلب بروكلين هذه المرّة: ‘ذاك جدل تافه سببه ضعف الخيرة وسوء الإستشارة’، يقول الحاخام في حديث مع الصحافي الأمريكي روبرت تاتل، مشدّداً على أنّ الأسد هو ‘الرهان الأفضل لأمريكا ولإسرائيل، بغضّ النظر عمّا يقوله’.
وبالطبع، بغضّ النظر عمّا يقوله أبناء سورية بحقّ الرهان والمراهنين، فالنظام أرفع عند حمرا من الشعب، والمحكوم ظلّ الحاكم بالضرورة، ولا بأس من اعوجاج الشارع المستقيم بين حين وآخر. هذه هي القاعدة، وأمّا أبحاث يارون هاريل وأمثاله فإنها الإستثناء!

‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى