النقاب وسياسة علمنة الدولة في سورية
مركز اس ار سي
في الوقت الذي كانت دولاً أوروبية تشهد إصدار قوانين تحظر النقاب تحت شعار “الحفاظ على العلمانية”، أعلن وزير التربية السوري علي سعد في نهاية تموز/يونيو الفائت عن إحالة 1200 معلمة من المنقبات إلى وظائف إدارية ليس لها علاقة بالتعليم، وتحديداً إلى البلدية، معللاً ذلك بـ”أن العملية التعليمية تسير نحو العمل العلماني الممنهج والموضوعي”، مؤكداً أن “بقية الوزارات ستقوم بنفس الإجراءات”، في حين صرح مسؤلوون آخرون بأن هذا القرار “يهدف إلى وقف نمو تيار ديني متشدد في سورية”، وإلى التأكيد على “علمنة التدريس”، وقد شجع هذا القرار وزير التعليم العالي لاتخاذ إجراء منع دخول المنقبات إلى الحرم الجامعي
من الطبيعي أن يثير هذا القرار نقاشاً واسعاً لدى السوريين حول مدى صحته، وفي الوقت نفسه يبث مخاوف وشكوك لدى المجتمع السوري ذي الأغلبية السنية المحافظة. وبمعزل عن الأسباب التي دعت إلى إصدار هذا القرار والنقاش الذي دار، فإن هذا القرار استقبل على نطاق واسع في المجتمع بكثير من الريبة والخوف من أن يكون “خطوة” للإجبار على خلع الحجاب وهو أمر يذكر بواحدة من أسوأ الحوادث في الثمانينيات عندما أمر رفعت الأسد (شقيق حافظ الأسد) نائب الرئيس وقائد “سرايا الدفاع” بنزع حجاب النساء في شوارع دمشق بالقوة! مما أدى إلى وقوع مجزرة مروعة بسبب مقاومة الأهالي، الأمر الذي اضطر الرئيس الأسد لتقديم ما يشبه الاعتذار على شاشة التلفزيون السوري الرسمي لتجاوز النقمة التي تسببت بها الحادثة، في وقت كانت أحداث العنف منتشرة في كل مكان في سورية. ومن المهم أن نلاحظ أيضاً في هذا السياق أن بعض الجماعات الدينية السياسية سارعت بإصدار بيانات تنتقد بشدة القرار الحكومي
هل موضوع المنقبات حقاً يمثل مشكلة في “علمنة الدولة”؟ وإلى أي حدّ تدعم طريقة اتخاذ القرار هذه العلمانية؟
بالتأكيد أن واحدة من الخطوات المهمة في التعليم النظامي والحكومي على وجه التحديد هو الحرص على تنشئة سياسية تنسجم مع نظام الدولة كما هو معرّف دستورياً كدولة علمانية متعددة الأديان. ولكن هناك شكوك عديدة يمكن أن ترد على هذا القرار، وما إذا كان بالفعل يخدم “علمنة الدولة” و”الحماية من التطرف الديني”. فالقرار تم تسريبه بطريقة غير معروفة يبدو أنها كانت محاولة لجس نبض الشارع ثم “اضطر” الوزير للإفصاح عنه وتبريره. كما أنه صدر بشكل مفاجئ ولم يكن هناك من الظروف ما يشير إلى خطوات من هذا النوع، خصوصاً وأن “قضية المنقبات” لم تكن مطروحة من قبل كواحدة من المشكلات في أي مؤسسة من مؤسسات الدولة أو في المجتمع السوري عامة. إضافة إلى هذا لم تكن هناك أي مؤشرات واضحة أو معلنة من قبل عن أن الجهاز التعليمي الحكومي يعاني من انتشار التطرف الديني. فالمصادر لهذا النوع من التطرف كما هو شائع ومعلوم خارج العملية التعليمية يمكن أن توجد هذه المصادر في بعض المؤسسات الدينية التي لا تخضع لرقابة مشددة من قبل الحكومة، أو في واقع اجتماعي يعاني من ارتفاع معدل البطالة والفقر بين الفئات الشابة بشكل خاص. وفي ظل مثل هذا الوضع يمكن أن يكون التساؤل عما إذا كان أنسب وقت لاتخاذ مثل هذا القرار هو الآن وليس بعد أحداث أيلول/سبتمبر 2001. وإذا كانت الدولة تسعى لتأكيد علمانيتها أمام شعبها، لماذا وقع اختيارها على النقاب الذي بات يملك رمزية خاصة في العالم الغربي ويثير حفيظة المجتمع السوري، في وقت كان بإمكان الحكومة العمل على تغييرات أكثر تأثيراً وأقل إثارة مثل “جريمة الشرف” والقوانين المتعلقة بالمرأة والتي تشكل مطالب للمنظمات الحقوقية وتحظى بتأييد واسع في المجتمع السوري، في حين يبدو قرار المنقبات استفزازياً وموجهاً ضد فئة أو جماعة دينية محددة، خصوصاً وأن مظاهر تطرف شبيهة أخرى تثير حفيظة السوريين وتعزز الغرائز الطائفية على نطاق واسع، كان يمكن اتخاذ قرارات بحظرها أو الحد من انتشارها مثل إزالة الرموز الدينية من الأماكن العامة ومؤسسات التعليم، وحظر المؤسسات الثقافية التي تقوم بتعزيز اللغة الطائفية
إن القرار الذي أريد منه أن يكون معززاً للعلمانية لم يعط فرصة للمتضررين لكن ينسجموا مع سياسات التعليم، ولم يسلك أي طريق من الطرق الدالة على العلمانية السياسية، وخاصة أن هذا القرار لا يسنده أي مظهر من مظاهر الديمقراطية، أو حتى لم يكلف المسؤولون أنفسهم تسويغ هذا القرار دستورياً وعلاقته مع الحريات الشخصية. يمكن في ظل الظروف التي أحاطت بهذا القرار المصمم لدعم علمنة الدولة أن يفهم في ظل متغيرات السياسة الخارجية بشكل أفضل، فسورية التي تحاول أقصى ما يمكنها تحسين علاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية والغرب بشكل عام حريصة على إثبات علمانيتها وتبديد ما قد يعلق في صورتها من ارتباطاتها وتحالفاتها مع إيران والإسلاميين، وتقديم نفسها كدولة تنتمي إلى النسق الثقافي الغربي، في وقت كان الحديث عن إعادة السفير الأمريكي إلى سورية، وتحسين العلاقات مع الولايات المتحدة أمراً ملحاً بالنسبة لسورية مع بوادر مأزق في لبنان ومحكمته الدولية التي بات من شبه المؤكد أن الاتهام سيوجه من قبلها إلى عناصر من حزب الله ولربما يصل الأمر إلى سورية، والقرار الظني كان على الأبواب إلى أنه أجّل بسبب ظروف لبنان…… يجب أن نلاحظ هنا أيضاً أن المسؤولين السوريين حرصوا على إبلاغ وسائل الإعلام العالمية ووكالات الأنباء الدولية أن سورية تعمل من أجل حماية علمانية الدولة في مواجهة أصولية متطرفة. وواقع الأمر أن هذه الرسالة المزدوجة الترغيبية الترهيبية تأتي في سياق مفهوم دقيق جداً. يؤكد صلة هذا القرار بظروف السياسة الخارجية باعتباره رسالة إلى الطرف الآخر، إلى الأميركيين بشكل خاص، أن وكالة الأنباء سانا عندما نشرت خطبة العيد التي حضرها الرئيس الأسد بعد شهر واحد من القرار والتي انتقد فيها الخطيب بقوة الولايات المتحدة و”ديمقراطيتها” الزائفة حذفت كل ما يتعلق بنقد أمريكا في موقف هو الأول من نوعه في نقل خبر سوري في ظل خطاب رسمي لطالما انتقد الولايات المتحدة. هذه القراءة تعزز سياسة سورية مستمرة تتصل بالجماعات الدينية ترهن السياسة الداخلية بمتطلبات السياسة الخارجية
هل سيحقق هذا القرار علمنة الدولة والتعليم الحكومي؟ علينا آن نضع في اعتبارنا أن المعلمين في المدارس الحكومية يتقاضون رواتب تتراوح بين 220-250 دولار شهرياً، بينما معدل الإنفاق للأسر المتوسطة هو 600 دولار شهرياً، وهذا يعني أن شريحة المعلمين تنتمي إلى الطبقة الفقيرة التي تنتشر فيها أعلى نسب البطالة والجرائم والتطرف (حسب التقارير الحكومية فإن معدلات الجريمة ارتفع بنسب كبيرة في السنوات الأخيرة)، وهذا يعني أن هذا القرار على مستوى الواقع سيدعم هذه الظروف، كما أن هذا القرار لا يحظى بتأييد إلا فئات محدودة من المجتمع، بل إنه لا يوجد أي ربط اجتماعي بينه وبين موضوع العلمانية، خصوصاً أن هذا النوع من النقاب هو جزء من عادات اجتماعية واستمراراً لتراث مازال قائماً منذ مئات السنين. يبدو القرار كما لو أنه موجه ضد جماعات محددة من المجتمع، مما يفقده تأثيره العمومي ويخلف نتائجاً غير محمودة العواقب
التأكيد على علمانية الدولة وحماية علمانياتها هو أمر مفهوم في مجتمع متعدد الديانات وفي منطقة تمر بأحداث العنف وتهددها الحروب الطائفية، لكن اختيار موضوع المنقبات للتأكيد على علمانية الدولة ليس هو المدخل المناسب لعلمنة الدولة في سياق المجتمع السوري، والاستمرار بسياسات من هذا النوع لا تأخذ بحسبانها مدى قبول المجتمع لها سينتج عنه على المدى البعيد العديد من النتائج التي تناقض علمنة الدولة أقلها استنفار الغرائز الطائفية وتعزيز التطرف. وإذا كان للأوروبيين مفهومهم ومنظورهم الخاص عن النقاب في ظل ثقافة مختلفة عن الثقافة العربية الإسلامية في بلد مثل سورية فإن إثارة موضوع مثل هذا ستكون له نتائج معكوسة، وبدلاً من ذلك فإن الخيار الأفضل هو القيام بمجموعة من الإصلاحات القانونية في موضوعات تحظى بتأييد واسع في مختلف شرائح المجتمع وطوائفه، واتباع طرق أكثر شفافية وديمقراطية في تنفيذها ليقبل بها السوريين عن رضى. إضافة إلى ذلك من الضروري إجراء نقاشات واسعة في المجتمع السوري لتعميق مفهوم العلمانية السياسية وفصلها عن أي ارتباطات محتملة بالسياسات الخارجية، ووضعها في أجندة التعليم من أجل تنشئة سياسة تنسجم ومتطلبات المجتمع السوري
كلنا شركاء