صفحات الناس

ذاكرة المعتقلات السياسيات

null
نادين غبّاش
تسجل روزا ياسين حسن في كتابها “نيغاتيف: من ذاكرة المعتقلات السياسيات” تجارب فريدة لنساء سوريات أمضين سنوات طويلة في محابس الاعتقال السياسي في سورية.
وكلمة “نيغاتيف” في أصلها اللاتيني تشير إلى النسخة السلبية للصور المُلتقطة عبر الكاميرا، وهي صور باهتة وناصلة اللون، مطموسة المعالم، تُشبه الذكريات البعيدة، تُوحي ولا تُفصح. وعلى الغلاف سُجلتْ عبارة “رواية توثيقية”، وهذه تُحدث التباساً في هوية، جنس، الكتاب؛ أرواية هو أم عمل توثيقي؟ وبعبارة الكاتبة “الوفاء للتجربة غير العادية، أو الوفاء للكتابة. وتحاول الكاتبة فض الالتباس في الصفحات الأولى من الكتاب؛ فتختار الكتابة. “ما استحوذ على اهتمامي هو أن أستطيع إخراج كتاب ممتع إلى قارئ مفترض، كتاب يحاول أن ينقل، لذلك القارئ أيضاً، بعض الويلات والانتهاكات التي اُرتكبتْ بحق النساء… من دون أن يُعلم بها”.
لكن مادة الكتاب تملصت من صائغتها. وظلت طوال 267 صفحة، منها 4 صفحات للصور، جنساً كتابياً مراوغاً ومتعدد الأوجه، يُشبع فضول القارئ العادي والمؤرخ ومؤرخ الأفكار السياسية والمتلصص على حيوات الآخرين والباحث الاجتماعي والمحلل النفسي و، ربما، مؤرخ مفترض لأساليب ومناهج التعذيب المتبعة في المعتقلات السورية، ولِمَ لا تكون رواية أيضاً؟ إنها سيرة جماعية عن الخيبة والتحدي والعذاب والألم والخوف والوحدة والحب والرغبات المقهورة والقلق والتوق والحلم والجرأة والشجاعة والقسوة ترويها أصوات عدد من النساء.
تجربة الاعتقال السياسي في سورية ليست بالنادرة، لا ينطبق هذا على عالم الرجال وحسب، بل على عدد كبير من النساء أيضاً. فتنبه روزا إلى أن العمل في كتابها هذا “كان من الممكن أن يستمر لسنوات أخرى! ذلك أن عدد المعتقلات، اللواتي رحتُ اكتشفهن كل يوم، كان يزداد ويزداد!”. ولأن المعتقلات السياسيات في سورية ينقسمن، إجمالاً، من حيث ولاءهن أو انتماءهن، أو شبهة الانتماء أو الولاء أو حتى التعاطف، إلى شيوعيات أو إخوانيات، فإن الكاتبة وجدت صعوبة في جمع تجاربهن “بسبب الرعب المعشعش في قلوب الكثيرات من المعتقلات، خاصة المعتقلات الإسلاميات… فإية واحدة قابلتها منهن لم تجرؤ على الكلام، عدا استثناءات قليلة جداً، وسط هيمنة الخوف القديم في دواخلهن”.
لينا و.، ناهد ب.، هند ق.، سحر ب.، حميدة ت.، غرناطة ج.، سناء و. أنطوانيت ل.، مجد أ.، سونا س.، حسيبة ع.، بثينة ت.، مي ح.، لينا ع.، أميرة ح.، وفاء ط.، هدى ك.، فاديا ش.، ضحى ع.، خديجة د. روزيت ع.، خلود ع.، هالة ع.، ليلى ن.، فيروز خ.، سناء ك.، راغدة ع.، رنا س.، صباح ع.، منى أ.، دلال م.، رجاء م.، هتاف ق.، آسيا ص.، سهام م.، مريم ز.، سلوى ح.، يسرى ح.، جميلة ب.، وفاء إ.، رنا م.، تهامة م.، فدوى م.، سامية ح.، هند أ.، سلافة ب.، رماح ب.، لينا م.، فاطمة خ.، شفاء غ.، فاطمة ع.، شفق ع.، عزيزة ج.، تماضر ع.، هالة ف.، هن معتقلات قضين فترات حبس تتراوح ما بين العام الواحد والستة عشر عاماً لكل واحدة منهن، وبسنوات اعتقال مجموعها 216 سنة، في ما بين عامي 1975 و1993. بعضهن عازبات وبعضهن متزوجات، بعضهن اُعتقلن على ذمة حزب أو تنظيم ما وبعضهن اُعتقلن وحبسن لسنوات رهائن في مقابل زوج أو أخ مطلوب اعتقاله، وبعضهن طفلات معتقلات بحكم بنوتهن لمعتقلات أو لأنهن وُلدن أثناء اعتقال أمهاتهن؛ والأغرب، أمٌ تُستقدم إلى السجن لمدة شهر لرعاية ابنتها المريضة بعد تدهور حالتها الصحية إثر تلقيها “ضربة من قبل أحد المحققين على رأسها”.
سوريات وفلسطينيات، عربيات وكرديات، شيوعيات وإخوانيات. هنّ بطلات هذه الرواية التوثيقية، يسردن على امتداد صفحاتها آلاف الذكريات؛ ذكريات ندر تسجيلها، إذ اكتفى الآف الرجال والنساء سواهن، في أحوال أخرى، بنقلها شفوياً ضمن أوساط ضيقة، في حين فضلت آلاف أخرى الصمت عنها نهائياً. بعضهن عُدن للاندماج في تيار الحياة اليومي بعد السجن بعيداً عن العمل في الشأن العام، وبعضهن عُدن وواصلن العمل بآليات وتوجهات أخرى، وبعضهن حصلن على لجوء سياسي وغادرن أسرهن وبلدهن بحثاً عن أماكن يجدن فيها شيئاً من الحرية والكرامة وفرصاً تخلصهن من أوجاع سنوات الاعتقال.
للسجن لغته وجغرافيته وأدواته وأساليبه في التعذيب: المعلم والفرع والتحقيق والكويدور والزنزانه والمنفردة والمهجع والبلاط والعازل والطميشة والكرباج والكبل الرباعي والدولاب والكرسي الألماني والكهرباء؛ وروائحه، رائحة العفونة والدم والصديد. وللسجانين والمحققين والجلادين لغتهم: “عاهرة، كلبة” في الشتم، ولهم أساليبهم في الحصول على الاعترافات الشَبح والفلقة والرفس والجلد والصعق بالكهرباء وحرق أوراق وُضعتْ بين أصابع معتقلة، وتعذيب الزوج على مرأى أو مسمع زوجته أو الحبيب أمام حبيته، رفيقته.
في التعامل مع المعتقلات النساء يكونون “في معظم الأحيان، ضباطاً وليسوا جلادين!”. يضغط أحدهم حذائه في فم إحدى المعتقلات؛ ويستعرض آخر وسائل رفاهه، كأس الويسكي وعلبة دخان المارلبورو وعطره، أمام أخرى ملقاة على الأرض. وآخر يهجم على معتقلة إسلامية “كالوحش، يصفعها ويضربها، وهو يمزق ثيابها قطعة قطعة، وهي مكبلة تقاوم… من دون أن تستطيع الدفع. فلما مزَّقَ كل شيء وصل إلى جواربها وقال لها: سأتركهم عليك حتى لا تبردي… ثم يأتي دور [جلاد] آخر فيُجلسها على كرسي وقد كبَّل يديها ورجليها من الخلف ببعضهم البعض، وجعل يُطفيء أعقاب السجائر في أعف منطقة ببدنها”.
وللمسجونات طرقهن في التواصل وفي نقل الأخبار وفي الترحيب بالمعتقلين والمعتقلات الجُدد وفي التحذير من قدوم السجان وفي التعارف وفي بث الأشواق والتصريح بالعواطف وفي كتابة اليوميات وفي ابتكار أقلام وأحبار، وطرقهن أيضاً في صنع أدوات بديلة مما يُستخدم في الحياة اليومية وفي التسلية وفي حل النزاعات داخل “عالم التفاصيل الصغيرة” في مسعى منهن إلى تأنيثه. ولهن حلولهن في استثمار أماكن النوم التي تضيق بأعدادهن، وفي التحايل على “الجلاد الأول… العدو الأول: الزمن. فالزمن في المعتقل هو الحافة الأمضى التي تنكسر عندها الأحلام”.
كتاب روزا ياسين حسن هذا- في نبشه لذاكرة الثمانينيات المقموعة والمسكوت عنها، وفي إيصاله أصوات ضحايا التعذيب والاغتصاب والقهر والاعتقال خارج القانون والحبس لسنوات من دون محاكمة وفي تقديمه جزءاً من صورة الواقع الفعلي لحياة آلاف السوريين اليومية وفي كشفه عن أشكال من التمييز الاجتماعي والمناطقي والسياسي حتى داخل المعتقل- يدخل دائرة المحظورات السورية بجدارة. ولهذا صدر في القاهرة عن مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان في العام 2008. ولهذا، أيضاً، فإن مكتبات بيع الكتب في سورية لم ولن تضع، في المدى المنظور، هذا الكتاب في واجهات عرضها، ولم ولن تقدم صحف سورية مراجعات وقراءات نقدية له، ولم ولن تتمكن غالبية السوريون من اقتنائه أو تداوله أو النقاش حوله بحرية وعلنية. فالجروح التي نكأها لا تزال راعفة، والخطوط الحمراء التي تجاوزها لا تزال حمراء تفرضها سطوة الديكتاتورية. والآراء التي حملتها المعتقلات لا تزال مُحاربة وممنوعة. وبهذا ستبقى رواية “نيغاتيف” سجلاً مخفياً لصوت مقموع.

http://www.skeyesmedia.org/?mode=researchdetails&id=81

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى