صفحات مختارة

أسس لتعميق الديموقراطية في العالم العربي

صدر حديثا عن دار Routledge كتاب بعنوان: Democracy in the Arab World, explaining the deficit وسينشر باللغة العربية من قبل مركز دراسات الوحدة العربية (ترجمة الدكتور حسن بدر). وهو ثمرة لمشروع بحثي مشترك أشرف عليه الدكتور سمير المقدسي والدكتور ابراهيم البدوي (محررا الكتاب) وساهم فيه نخبة من الباحثين من اقطار عربية مختلفة ومن خارجها(•)
يهدف الكتاب الى تحديد العوامل الرئيسة التي تقف وراء تواصل العجز الديموقراطي في العالم العربي بالرغم من نموه الاقتصادي والاجتماعي اللافت في العقود الستة الماضية، وذلك بالمقارنة مع التلازم الايجابي بين التنمية والديموقراطية في مناطق اخرى من العالم. ويتبنى الكتاب طريقة بحث ثنائية تجمع من ناحية بين التحليل الكمي والنوعي ومن ناحية اخرى بين دراسة عابرة للبلدان تشمل معظم البلدان العربية وتستند الى نموذج موسع لمفهوم الحداثة ودراسات معمقة لحالات ثمانية بلدان عربية تتخذ من هذا النموذج نقطة انطلاق.
يتوصل النموذج الى ان النفط وبدرجة اهم نزاعات المنطقة (في مقدمها القضية الفلسطينية) ، التي لم تجد بعد حلا عادلا لها هي العوامل الكبرى التي تفسر تواصل العجز الديموقراطي في المنطقة العربية. وتقوّم دراسات الدول العربية مدى اهمية هذين العاملين في اعاقة مسيرتها نحو الديموقراطية ولكنها تركز ايضا على العوامل الخاصة بكل منها من تاريخية وسياسية واقتصادية ومؤسسية وتدخلات خارجية تشكل تفسيرات اضافية ومهمة لاستمرارية العجز الديموقراطي فيها.
وضع المحرران ملخصا تفسيريا للكتاب من قسمين يجمع الاستنتاجات الرئيسة للابحاث الواردة فيه. يلخص القسم الاول العوامل الرئيسة وراء تواصل العجز الديموقراطي في العالم العربي والثاني يقدم ملاحظات ختامية موجزة حول تعميق عملية الدمقراطة العربية. وفيما يلي نص القسم الثاني الملخص.
ابرهيم البدوي وسمير المقدسي

من الواضح أن تسريع عملية الدمقرطة وتعميقها في العالم العربي عملية معقدة. فهي قضية تخص العالم العربي ككل، كما تخص كل بلد عربي على حدة. إن شروط نجاح عملية دمقرطة حقيقية (لا شكلية) وتواصلها يمكن أن تختلف طبعاً من بلد لآخر. لذا فإن الدراسات القطرية عن البلدان العربية لاحظت ضرورة التركيز على معالجة اشكاليات معينة للتغلب على عقبات الإصلاح الديموقراطي. وحينما تترسخ بنجاح عملية الدمقرطة في بلد عربي ما فإنه من المرجح ان بلدانا اخرى بما في ذلك البلدان المجاورة ستتأثر ايجابيا بهذه العملية .
وفي ما يلي، نعرض لملاحظات تمهيدية موجزة حول التحول من الحكم الأوتوقراطي الى الحكم الديموقراطي في العالم العربي. هذه المسألة لها علاقة بالمنطقة ككل. ان الابحاث التي يتضمنها الكتاب، تسلط الضوء على اربع قضايا متصلة تستحق التأمل والدرس: (1) الحل العادل لنزاعات المنطقة، وبخاصة القضية الفلسطينية؛ (2) الحد من التدخلات الخارجية الضارة؛ (3) الإصلاح المؤسسي الذي يحمل معه عقوداً اجتماعية جديدة في الدول النفطية وغير النفطية معاً؛ وأخيراً، ولكن ليس أقل أهميةً، (4) تطوير وتمكين الطبقة الوسطى، مع دور ناشط لمنظمات المجتمع المدني المستقلة وتشجيع ثقافة الديموقراطية لضمان حماية حقوق الأقليات ودعم المساواة بين الجنسين، بين أمور أخرى.
تبرز أهمية حل نزاعات المنطقة بالنسبة لقضية الديموقراطية على نحو مباشر. فهذه النزاعات، وبخاصة القضية الفلسطينية من حيث انها لم تحل حلا عادلا لحينه، قد أضَّرت بمسار الديموقراطية في العالم العربي: وهذا يخالف تجربة المناطق الأخرى حيث ساهم حل النزاعات فيها في تعبيد الطريق للإصلاح الديموقراطي. فالنزاعات العالقة في العالم العربي حفزت الحركات الدينية الاصولية، واجتذبت التدخلات الخارجية المزعزعة للاستقرار، وحولت توظيف الموارد لبناء الأجهزة العسكرية والأمنية التي دعمت نظم الحكم الأوتوقراطي وذلك على حساب التنمية الاقتصادية والاجتماعية. إن الحل العادل للقضية الفلسطينية(1)، وللنزاعات الأخرى في المنطقة أيضاً،، قد لا يحّرك وحده عملية الدمقرطة، ولكن من شأنه بالتأكيد أن يخلق بيئة أكثر ملائمة لهذه القضية(2).
إن حل هذه المشاكل سيقود، على الأرجح، إلى تقليل التدخلات الخارجية المزعزة للاستقرار في المنطقة. فهذه التدخلات كانت، سبباً ونتيجة معا لبعض النزاعات الكبرى في المنطقة، بما في ذلك الحروب الأهلية ومنها ازمة دارفور في السودان، والغزو الأميركي للعراق في 2003، والهجمات الاسرائيلية على لبنان في تموز-آب 2006، وعلى غزة في كانون الأول 2008 – كانون الثاني 2009- و هي أمثلة عن النزاعات الحديثة العهد. وإضافة إلى ذلك، فإن حل النزاعات ينتزع من الحكام ذريعة مهمة دأبوا على توظيفها للمحافظة على نظمهم الأوتوقراطية (أي الدفاع عن الأمن القومي)، مما يعمل بدوره على زيادة الضغوط على الحكومات العربية لكي تكون أكثر انفتاحاً وتقبلاً لمتطلبات الحقوق المدنية والسياسية. وأخيراً، فإن حل نزاعات المنطقة سيتيح إعادة تدفق الموارد في إتجاه مشروعات التنمية الاقتصادية والاجتماعية. كما سيتعزز، دورُ منظمات المجتمع المدني المستقلة التي تدافع عن، وتعمل من أجل، الإصلاح السياسي والاقتصادي. وفي هذا السياق، ينبغي ملاحظة أن النظم العربية، غالبا ما عملت إما على إخضاع منظمات المجتمع المدني لسيطرتها أو لجأت الى خلقها من اجل خدمة مصالحها. ولكن ان لم تكن منظمات المجتمع المدني مستقلة فعليا، فإن دورها في تعزيز المصلحة العامة والدفاع عن الإصلاح يضعف كثيرا(3).
صحيح أن حل نزاعات المنطقة، وبخاصة النزاع العربي-الاسرائيلي، هو موضوع دولي، فلا يتوقع أن تلعب القوى الخارجية ولا الاقليمية المعنية دوراً إيجابياً في هذا الموضوع ما لم تتأكد من أن ذلك يخدم مصالحها. ولأنه لم يتم التوصل بعد الى أي تسوية عادلة، فإن البلدان الأقرب من مركز النزاع على فلسطين (ومن ضمنها الأراضي الفلسطينية التي احتلتها اسرائيل سنة 1967) كان عليها أن تتحمل عبء التكاليف الناتجة عن هذا النزاع على مدى السنين. قد يصعب التنبؤ بالمدى الزمني الذي سيستغرقه التوصل الى حل عادل للقضية الفلسطينية، ولكن ليس من الصعب الاستنتاج بأن هذا الحل سيؤثر بشكل ايجابي ومهم على آفاق الدمقرطة في المنطقة.
إن الإصلاح المحلي السياسي والمؤسسي، أي تطوير مؤسسات أكثر انفتاحاً، وتمثيلاً، وخضوعاً للمساءلة والمحاسبة، هو طبعاً مكِّون جوهري للعملية الديموقراطية. ثمة أدبيات معمقة حول بناء المؤسسات وتأثيرها الايجابي على التنمية والديموقراطية. فمثلاً، إن تبني القوانين الانتخابية التي تضمن التمثيل العادل، وتعزز استقلال النظام القضائي، وتحمي حقوق الملكية، وتشجع تحقيق مساواة أكبر بين الجنسين، وتؤسس هيئات تنظيمية ضرورية لتصحيح نواقص السوق، وتبني مؤسسات الضمان الاجتماعي، وتؤسس آليات لإدارة النزاعات الاجتماعية، كلها جوانب مهمة لإرساء البنية التحتية المؤسسية لدولة ديموقراطية بشكل حقيقي. إن بناء وتعزيز المؤسسات الديموقراطية سيساعد ليس على ضمان الحقوق السياسية والمدنية فقط (وهي قيم ذاتية)، بل ايضا في تثبيت عملية النمو، وتحقيق تنمية اقتصادية – اجتماعية أكثر عدلاً، كما يرى الكثير من الباحثين.
في الفصل الثاني، أشرنا بإيجاز إلى التأثير المفيد للدمقرطة على النمو في المنطقة العربية، وإن عدداً من الدراسات القطرية في هذا الكتاب تبين المجالات المحتملة للإصلاح المؤسسي. ثمة أكثر من طريق واحد للإصلاح، والمسارات المختارة يمكن ان تختلف من بلد لآخر. ولكن أياً كان المسار المختار، فإن بناء المؤسسات في المنطقة العربية يواجه تحدياً كبيراً وهو كيفية التحول من الحكم الأوتوقراطي نحو المؤسسات الديموقراطية، مع الأخذ في الاعتبار البيئة السياسية – الثقافية والدينية القائمة، ومسألة الدعم الخارجي للنظم الأوتوقراطية القائمة.
في البداية، نود التأكيد على ما أشار إليه عدد من ابحاث الكتاب، بشكل مباشر أو غير مباشر، وهو أن بناء المؤسسات مهمة وطنية وليست مهمة تُفرض من الخارج. وعند رسم مسار الدمقرطة، فإن تحديد قضاياه المختلفة وايجاد الحلول لها هي المسؤولية الجماعية لكل مكوِّنات المجتمع في البلد المعني. ورغم أن تجربة البلدان الأخرى يمكن أن تُلقي الضوء على كيفية السير في طريق الدمقرطة، إلاّ أن هذا المسار لا يمكن استيراده. فليس بوسع أي بلد أن يتقدم نحو ديموقراطية حقيقية في معزل عن تاريخه وتقاليده وبنيته الاجتماعية. ولا بد من التشديد في هذا الصدد أن الدور الجماعي للمجتمع المدني، والجامعات، والمنظمات غير الحكومية، والأحزاب السياسية، أمر حاسم في الدفع نحو الإصلاح. صحيح أن النظم الأوتوقراطية العربية كانت قادرة حتى الآن، وبطريقة قسرية، على إحباط التطور الديموقراطي المهم، وحتى في لبنان، بديموقراطيته التوافقية، نجحت الأحزاب والمجموعات السياسية-الطائفية في تأخير التحولات الممكنة نحو ديموقراطية أكثر نضجا، رغم الانفتاح التاريخي للبلاد ومستوياتها التعليمية المرتفعة نسبياً. إن الضغط المستمر لمختلف مكونات المجتمع (أي التعبئة الجماهيرية) أمر لابد منه إذا أُريد خدمة قضية الديموقراطية.
إن المجال لا يسمح لنا لمناقشة وسائل الضغط على النظم العربية المطلوبة لفرض التغيير؛ بوسعنا فقط القول أنه اذا ما استثنينا قيام ثورة فان الأمر يتطلب صياغة تحالفات عملية بين القطاعات المختلفة من المجتمع التي تؤمن بالإصلاح، أو بين الأحزاب السياسية التي يمكن أن تكون لها ايديولوجيات متباينة، ولكنها مع ذلك تتقبل قواعد اللعبة الديموقراطية (للمزيد حول هذا الموضوع، أنظر بشارة 2007)(4).
وهذا مشروع صعب دون شك، رغم وجود آفاق مشجعة على الإصلاح الديموقراطي في العالم العربي، كما نلاحظ أدناه. ففي عدد من البلدان العربية، من الضروري مواجهة التحديات التي تفرضها الانقسامات الاجتماعية القائمة، والموروثات التاريخية و/أو التقاليد الاجتماعية. فالتطور المؤسسي الهادف لتمهيد الطريق للإصلاح الديموقراطي لا يمكنه ان يهمل تلك التحديات. ففي لبنان والعراق والسودان، مثلاً، فإن أشكالاً معينة من الديموقراطية التوافقية، التي تأخذ في الاعتبار الانقسامات الاثنية-الدينية، قد تكون ضرورية كحالة انتقالية نحو نظام ديموقراطي كامل لا يتضمن اية ممارسات تمييزية(5). وفي منطقة الخليج، يمكن صوغ عقود اجتماعية جديدة من شأنها أن تفتح الطريق لتحقيق حرية سياسية أكبر ومساهمة أوسع للنساء في المجتمع، وتتحسب في الوقت نفسه للتقاليد القبلية أو الاجتماعية – وفي الواقع، ثمة مطالبات متزايدة من داخل المنطقة بالإصلاحات السياسية وفق تلك الرؤى(6). وفي سوريا ومصر والأردن، يمكن الإصلاح المهم أن يبدأ بالسماح بالتعددية الحزبية في العمل السياسي ضمن بيئة سياسية حرة، إلى جانب اقتصاد وطني أكثر ليبرالية، على ان يكون خاضعا للبيئة التشريعية الضرورية. وسيكون الهدف العام لهذه الخطوات هو تعزيز المشاركة الصحيحة في الحكم لمكوِّنات المجتمع المختلفة، مما يؤدي الى نظام حكم أفضل يخضع للمساءلة والمحاسبة.
ما هي آفاق الانتقال نحو دمقرطة أكبر في المنطقة؟ في نظرنا، ثمة ثلاث قوى محركِّة رئيسة كامنة: طبقة وسطى مستقلة ونامية؛ ودور متزايد لمنظمات المجتمع المدني المستقلة والمناصرة للإصلاح، بما في ذلك الأحزاب السياسية (بالمقارنة مع الدور الذي ترتئيه الحكومة للمنظمات التي تخلقها أو تعتمد عليها)؛ وانفتاح وتفاعل أكبر مع العالم الخارجي. إن كل القوى المحركِّة الكامنة للإصلاح الديموقراطي ستكون أكثر فاعلية في حال افتراض حلول عادلة للنزاعات الاقليمية، وفي مقدمتها النزاع العربي-الاسرائيلي. وفي الوقت نفسه، سيتقلص التأثير السلبي للثروة النفطية مع تدني النزاعات الاقليمية كنتيجة لمثل هذه الحلول.
ولا يرتبط نمو الطبقة الوسطى المستقلة بزيادة متوسط الدخل الفردي ومستويات المعيشة فقط، بل أيضاً بالانتقال من الاقتصادات التي تسيطر عليها الدولة كليا إلى اقتصادات اكثر اعتمادا على السوق، مع احتفاظ الدولة بدورها التنظيمي والتوجيهي. حينما تكون السيطرة على الاقتصاد بيد الدولة أساساً، فإن الطبقة الوسطى كثيرا ما تصبح، مدينة للحكام الذين يقايضون تقديم التسيهلات او الامتيازات بالولاء. ولكن مع تراجع الدور الاقتصادي المباشر للدولة، تصبح الطبقة الوسطى (بما في ذلك المثقفون، ورجال الأعمال، ومنظمات المجتمع المدني) أكثر حزماً في مطالبتها باصلاحات سياسية اوسع(7).
وكما وردَ أعلاه، فإن التحالفات بين أنصار الإصلاح أخذت تتكون في العالم العربي لتحدي النظم الاوتوقراطية. وفي هذا السياق، يكمن التحدي الكبير في أن التحول الاقتصادي من القطاع العام إلى القطاع الخاص يمكن أن يقود ببساطة إلى ما أصبح يُعرف بـ”خصخصة” الدولة نفسها، أي أن الدولة نفسها تصبح حكراً على السلطة وحلفائها من الأحزاب “السياسية” الحاكمة، وهي ظاهرة أخذت تظهر في عدد من الدول العربية. وفي هذا الإطار، فإن صعود طبقة وسطى مستقلة سيخلق بيئة اكثر ملائمة لتوطد ديموقراطية صالحة. ولكن في حين أن طبقة رجال الأعمال تجد في الدمقرطة، إلى حد بعيد، مصلحتها الاقتصادية الخاصة (ومن هنا يأتي دفاعها عن خصَخصة الاقتصاد الوطني)، فإن دور المثقفين العرب والجامعات والمنظمات المناصرة للإصلاح أمر حاسم في التوصل الى الهدف النهائي من الدمقرطة كحُكم صالح. وهذا يرتبط بشكل جوهري بنجاحهم في تشجيع الجمع، على المستوى المؤسسي، بين المبادىء الشاملة للديموقراطية (أي ثقافة الديموقراطية) والظروف الاجتماعية الخاصة للمنطقة(8).
وهذه عملية قائمة لا يمكننا ان نخوض في حيثياتها هنا. ما نود ملاحظته فقط هو أن تأثير العوامل الخارجية (البُعد الخارجي) في عملية الدمقرطة في العالم العربي يتنازعه مؤثران متعارضان. المؤثر الأول إيجابي وهو انفتاح العالم العربي على العولمة المتزايدة في أنحاء العالم. وهذا يحمل معه المنافع الاقتصادية الأخرى وغيرها، بما في ذلك الوعي الشعبي المتنامي للاتجاهات والإصلاحات السياسية في المناطق الأخرى، إضافة إلى مستوى أعلى من التفاعل الثقافي مع العالم الخارجي. وقد حاول الحكام العرب الاوتوقراطيون، بدرجات مختلفة، عزل نظمهم عن المؤثرات الخارجية التي يعتبروها تهديداً لحكمهم. ومع ذلك، وفي نهاية المطاف، فإن التأثيرات الايجابية لمسارات الدمقرطة، المفيدة، للعمليات الديموقراطية في المناطق الأخرى من العالم تشكل حافزا ايضافيا للاصلاح الداخلي في البلدان العربية.
والمؤثر الثاني سلبي. وهو يطرح تحدياً خارجياً حقيقياً على العالم العربي وينبع من البيئة الاقليمية السلبية التي خلقتها النزاعات في المنطقة (المرتبط بالنفط وغيره). فإذا فرضنا أن القوى الخارجية، بسبب مصالحها الجيو – سياسية والاقتصادية، تدعم النظم الأوتوقراطية القائمة (وهذا هو واقع الحال)، فينبغي علينا عندئذ أن نفترض أن مهمة الإصلاح الديموقراطي ستتحمل أعباء إضافية وأن عملية الدمقرطة ستتأخر. ولكن، وفي نهاية المطاف، فمن المتوقع أن تسود القوى المحرِّكة الكامنة للديموقراطية، المشار اليها سابقا.
ثمة ثلاثة عوامل محتملة خلف تفاؤلنا ” الحذر” بشأن مستقبل الديموقراطية في المنطقة. أولاً، أن فشل النظم الاوتوقراطية في بناء توازن عسكري واستراتيجي مع اسرائيل، وفشلها اللاحق في فرض حل عادل ودائم للقضية الفلسطينية، لم يقللا من شرعيتها فقط، بل سَلبَاها أهم ذريعة لبقاءها في السلطة. ثانياً، أن الوجه المتبدل للحركات الاسلامية السياسية الكبرى في المنطقة، بما في ذلك استعدادها المعلن لقبول الانتخابات الديموقراطية وتسوية خلافاتها مع نظائرها في المعارضة السياسية العلمانية، تهدد بمنع النخب الحاكمة في بلدان عربية اساسية من شق المعارضة، وهي استراتيجية كثيرا ما استعملت من قبل تلك النظم الاوتوقراطية.
ويشير بعض مراقبيّ المشهد السياسي العربي إلى أنه كلما تمكنت الحركات الاسلامية والعلمانية من الاتفاق على برنامج سياسي عام، بما في ذلك الإقرار بالحقوق السياسية والمدنية المتكافئة لكل المواطنين وقبول التعددية السياسية، ازداد الضغط من أجل الإصلاح الديموقراطي، وأن تجربة البلدان الاسلامية غير العربية التي تبنت أشكال من الحكم الديموقراطي هي تجربة يمكن الافادة منها (أنظر، مثلاً، Al-Ghannoushi, 2008). صحيح أن الأمر يتطلب جهوداً ضخمة من كلا الجانبين للتغلب على الأرث الطويل من عدم الثقة التي كانت تؤججها، إلى حد بعيد، النظم العربية الاوتوقراطية. وقد تكون هذه القضية هي التي تجعل بعض الباحثين والمراقبين السياسيين يطرحون ضرورة التوصل إلى فهم ملزم مسبق أو ميثاق سياسي بين المجموعات الاسلامية والعلمانية يتم بمقتضاه الاتفاق على وجوب الحفاظ على الحكم الديموقراطي بغض النظر عن المجموعة أو الائتلاف الذي سيمارس السلطة كنتيجة للعملية الانتخابية (أنظر، مثلاً، حسيب 2008 – Waterbury, 1994)(9) ومن ناحية أخرى، وكما يرى باحثون آخرون (أنظر، مثلاً، Ottoway and Hamzawy, 2008)، فثمة احتمال ضئيل، في ظل الظروف العادية، أن يقوم الاسلاميون بتغيير قواعد اللعبة الديموقراطية في حال فوزهم في انتخابات حرة ونزيهة، اي ان مشاركتهم السياسية، على الارجح ستؤدي الى اعتدالهم السياسي وتعزز التزامهم بالعملية الديموقراطية(10). ومهما كان الحال، فإن انفتاح العملية السياسية أفضل من انغلاقها.
ثالثاً، في المدى البعيد، فإن استدامة النظم الاوتوقراطية المستندة الى الثروة الطبيعية غير مؤكدة لأن هذه النظم،، لا يُحتمل أن تحقق تحولاً اقتصادياً يمكنه استيعاب التزايد المستمر في السكان فيسن العمل، في حين أن الموارد النفطية “البحتة” لا يُحتمل أن تُجاري الضغوط السكانية المتزايدة، وبخاصة في البلدان الأكثر سكاناً، مما سيدفع في اتجاه الاصلاحات السياسية التي من شأنها ان توفر الاطر المؤسسية الضرورية لمعالجة القضايا التنموية الضاغطة.

(•) وهم إضافة الى المقدسي والبدوي كل من الدكاترة: إرك ديفز، بسام يوسف،بلقاسم العباس،جوده عبد الخالق، جوزف مسعد،رائد صفدي، رضوان زيادة، سامي عطا الله، طاهر كنعان، عبد الوهاب الافندي، عطا البطحاني، علي عبد القادر علي، عمار بوحوش، غاري ميلانت، فاديا كيوان، لورا مونرو، ماركوس ماركتانر، مصطفى كامل السيد.

الهوامش
(1) ليس هنا مجال لنحلل ما تعنيه التسوية العادلة، بل نود التأكيد فقط أن هذه التسوية ينبغي أن تكون مقبولة لدى غالبية الشعب الفلسطيني كما تتجلى في استفتاء عام.
(2) قارن (Plateau, 2008)، الذي يقول لو أن القوى الغربية أخذت موقفاً متنوراً في وقت مبكر عند التعامل مع القضية الفلسطينية، لربما ساعدَ هذا الامر الحركات العربية العلمانية الصاعدة في الخمسينات والستينات على ترسيخ جذورها أكثر.
(3) أوضح النجار (2008: 29-31) إن طبيعة منظمات المجتمع المدني في البلدان العربية، وبخاصة دول الخليج، تختلف عن مثيلاتها في البلدان الغربية. فنشوء المجتمعات المدنية في البلدان الغربية كان مرتبطاً بنمو الطبقة الوسطى المستقلة، وإقامة إطار قانوني مستقل، إضافة إلى الملكية الخاصة. أما في حالة مجتمعات الخليج العربية، فإن مفهوم المجتمع المدني لابد من توسيعه ليشمل التقاليد القبلية والعائلية والدينية التي تؤثر على طبيعة وعمل المنظمات غير الحكومية.
(4) لتحقيق التغيير الديموقراطي، يدعو الكاتب الى برنامج وطني/ديموقراطي يكون في صدارة عمل سياسي منظَّم بقيادة النخبة التي تؤمن بمبادئ الديموقراطية. إن التحول لدولة ديموقراطية لا يمكن أن يكون تدريجياً كما كانت الحال تاريخيا، في البلدان الغربية على الأقل. على العكس، فالظروف القائمة في العالم العربي، وفي البلدان النامية على نحو أعم، تتطلب تحقيق التحول كله وفي وقت واحد وفقاً لبرنامج ديموقراطي وطني مفصل. كما أنه ينتقد نظرية التحديث والنظريات المتداولة الأخرى للتحول على أساس أنها تتضمن أفقاً تاريخياً يستند الى تجارب البلدان الغربية التي أصبحت ديموقراطية إلاّ أنها لا تتيح صيغة للتحولات نحو الديموقراطية في العالم العربي المعاصر.
(5) صحيح أن تجربة لبنان لا تقِّدم مثالاً مشجعاً للانتقال من النموذج التوافقي حيث الحقوق السياسية غير متكافئة بين المواطنين إلى ديموقراطية كاملة. ولكن أسباب هذا الفشل يمكن ردها إلى التدخلات الخارجية إلى حد بعيد، أو، بتحديد أكثر، إلى وضع لبنان الجغرافي-السياسي في منطقة نزاعات، وبخاصة النزاع العربي-الاسرائيلي غير المحلول، وتأثيرات الثروة النفطية.
(6) إضافة إلى الدعوات الكثيرة من قبل المثقفين العرب على شكل أعمال منشورة أو مؤتمرات (أنظر، مثلاً، 2007 مركز دراسات الوحدة العربية)، فإن عدداً من المجموعات المناصرة للديموقراطية كانت نشطة في هذا المجال، بما في ذلك قمة المنظمات العربية غير الحكومية (المنتدى المدني) التي تضم أكثر من 50 منظمة غير حكومية من مختلف البلدان العربية؛ والاتحاد العربي للديموقراطية ومنظمة التعليم والعمل.
(7) يلاحظ استرلي (Easterly ,2006: 124) “أن الدراسات العابرة للبلدان وجدت حقاً أن احتمال وجود الديموقراطية يكون أكبر في المجتمعات التي يكون فيها للطبقة الوسطى حصة أكبر من الدخل- حتى حينما نواجه سببيةً معكوسة ممكنة من الديموقراطية في اتجاه حجم الطبقة الوسطى”.
(8) قام باحثون كثيرون بتحليل الأبعاد المختلفة لهذه القضية، وبخاصة التوافق بين الاسلام والديموقراطية.
(أنظر، مثلاً، مركز دراسات الوحدة العربية Abdelwahab, Chapter 1, this volume; Sadiki, 2004; 2000,1999 ).
(9) يشير حسيب (Haseeb ,2008: 55-68) إلى أنه لكي تنجح، فإن صياغة برنامج مشترك بين القوميين العرب والمجموعات الاسلامية لمواجهة التحديات الكبرى للعالم العربي، بما في ذلك الانتقال الى الأشكال الديموقراطية للحكم، سيتطلب من الاسلاميين القبول بالديموقراطية وما تفترضه من تعددية سياسية، كما يتطلب أيضاً أن يعملوا ضمن النطاق العربي فقط.
(10) عند كتابتها عن الديموقراطية والتنمية والنساء المسلمات في بنغلادش، تلاحظ شهاب الدين (Shehabuddin ,2008: Chapter 1 and Coda) أن التنافس بين العلمانيين والاسلاميين لتحقيق تغير في حياة النساء الفقيرات في الريف، انسجاماً مع آراء كل منهما عن التنمية، قاد الاسلاميين إلى الاهتمام أكثر بقضايا حقوق المرأة (ولو ضمن إطار تفسيرهم للاسلام) في محاولة لكسب أصواتهم الانتخابية، رغم عدم تحقيق نجاح كبير في هذه المحاولة. .

المراجع
– عزمي بشارة، في المسألة العربية: مقدمة لبيان ديموقراطي عربي، مركز دراسات الوحدة العربية، 2007.
– مجموعة من الباحثين، المسألة الديموقراطية في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، 2000.
– الحوار القومي – الديني، ندوة فكرية لمركز دراسات الوحدة العربية، 2007.
– مجموعة من الباحثين، الحركات الاسلامية والديموقراطية: دراسات في الفكر والممارسة، مركز دراسات الوحدة العربية، 1999.
– باقر النجار، الديموقراطية العصية في الخليج العربي، دار الساقي، 2008.
– Al-Ghannoushi, S. R.2008. “Islamist and Secular Intellectuals: Possibilities for Dialogue”. Paper presented at the conference on “Islamism, Democratization and Arab Intellectuals” organized by the Center for the Study of Democracy, the University of Westminster, December 4 – 5, London.
– Easterly, W. 2006. The White Man’s Burden. New York: Penguin Press.
– El Effendi, A. 2006. “Democracy and its (Muslim) Critics: an Islamic Alternative to Democracy?” in Muqtader Khan, ed. Islamic Democratic Discourse. Lanham, Maryland: Lexington Books.
– Plateau, J.-P. 2008. “Religion, Politics and Development: Lessons from the Land of Islam”. Journal of Economic Behavior, 68, 2 (November).
– Ottoway, M. and A. Hamzawy. 2008. Islamists in Politics, the Dynamics of Participation. Carnegie Papers, Middle East Program, Number 98, November. Carnegie Endowment for International Peace, Washington, D.C.
– Sadiki, L. 2004. The Search for Arab Democracy, Discoveries and Counter-Discoveries. New York: Columbia University Press.
– Shehabuddin, E. 2008. Reshaping the Holy, Democracy, Development and Muslim Women in Bangladesh. New York: Columbia University Press.
– Waterbury, J. 1994. “Democracy Without Democrats, the Potential for Political Liberalization in the Middle East”, in Ghassan Salame. Ed. , Democracy Without Democrats, The Renewal of Politics in the Muslim World. London and New York: I.B.Tauris.
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى