تقرير هنري باركي عن معهد السلام الاميركي: تركيا وكردستان العراق: من النزاع إلى… الاحتضان
مراجعة: بدرخان علي
يعود المؤلّف هنري باركي، الباحث والجامعيّ الأميركيّ المتخصّص في الشؤون التركيّة، إلى سياسة تركيا الكرديّة من خلال تقرير” العلاقة التركية الجديدة مع العراق: احتضان كردستان العراق”، الصادر أخيراً عن معهد السلام الأميركيّ. وكان المؤلف قد أصدر قبل أكثر من عام تقريراً عن مؤسسة كارنيغي بعنوان “الحؤول دون انفجار النزاع حول كردستان” على صورة قراءة إجماليّة مختصرة وجملة مقترحات لما ينبغي أن تكون عليه الرؤية والسياسة الأميركيتان حيال احتمالات تطوّرات المسألة الكرديّة في الإقليم بناءً على التغييرات الجيوسياسية بعد احتلال العراق وسقوط نظام صدام حسين 2003؛ وما أعقب ذلك من صعود التطلّعات القومية الكردية في البلدان الأربعة المعنيّة أساساً)العراق وتركيا وإيران وسوريا)؛ وكذلك من تفاعلات السياسات الإقليميّة للدول المُشار اليها في الوضع الداخليّ العراقيّ والعلاقات الكرديّة – العربيّة فيه، ودائماً من منظار صيانة المصالح الأميركيّة في المنطقة مع انزياح كبير للمصلحة التركيّة المفترضة في إدارة الملف الكرديّ بطريقة جديدة إنْ في حدودها أو على مستوى الإقليم “ذاك أن استقراراً تركيا طويل الأمد مصلحة أميركيّة ثابتة” كما يقول المؤلِّف ويؤكِّد التقرير مراراً.
اللاّفت في هذين التقريرين هو النّظر إلى المسألة الكرديّة من اعتبارات مقياس واحد هو الاستقرار في المنطقة والمصلحة الأميركية والتركيّة كيفما كانت، ودون ذلك بكثير تأتي رغبات ومصالح الطرف المعنيّ)الشعب الكرديّ وحقوقه القوميّة)، كما تحاشي التّنويه إلى دور السياسات الأميركيّة)والأوروبيّة) المتعاقبة في ديمومة الأنظمة الديكتاتوريّة والفاشيّة في المنطقة تلك التي أنزَلت الكوارث بالشعب الكرديّ وبلاده والتي يُكتب عن بعض جوانبها هنا ببرودة دم، غير مفاجئة على أيّة حال.
الحؤول دون انفجار النزاع حول كردستان
وكان التقرير السابق رأى أنّ على واشنطن الاهتمام بالأبعاد العديدة للمسألة الكرديّة لتلافي نشوب نزاعات في المنطقة الكرديّة تبعاً لثلاثة أسباب مُحتملَة مترابطة يمكن أنْ تشكّل متاعب جمّة لواشنطن. الأوّل يتعلّق بالعلاقات بين الحكومة الإقليميّة الكردستانيّة والحكومة المركزيّة ببغداد والنزاع حول كركوك بشكل خاص؛ فعدم الاستقرار السياسيّ والعنف أو الحرب الأهليّة الشاملة سوف تؤثّر على خطط سحب القوات الأميركيّة وسيكون لها نتائج كارثيّة على المصالح الأميركيّة. الثاني يتعلّق بتركيا والمشكلة الكردية ضمن حدودها وكذلك الحساسيّة التركيّة المتفاقمة من النجاحات الكردية في العراق بصفتها أخطاراً تهدّد وحدة أراضيها. وتركيا إذ تنغلق على نفسها بسبب عدم قدرتها على حل “التحدي الكردي المحلي” سلميّاً، لن تكون قادرة في الغالب على لعب دور بناء في الشرق الأوسط أو النجاح في الانضمام للاتحاد الأوروبي. المصدر الثالث المحتمل للنزاع هو ردود فعل الأكراد الإيرانييّن والسوريّين على التطوّرات عند جيرانهم حيث قُرعت أجراس الإنذار لدى نظامَي البلدين بسبب التعبئة الكردية المتزايدة و(أعمال العنف) في سوريا وإيران…
في تقريره الجديد يدرس المؤلّف تغيّر سياسات تركيا الإقليميّة، خصوصاً في علاقاتها مع كردستان العراق والتأثيرات على الوضع الكرديّ الداخليّ في تركيا. وبرأي الباحث لا يوجد سبب واحد يفسر تغير سياسة تركيا، بل هو مزيج من التطورات داخلها – بعضها لا علاقة له تماماً بالعراق وأكراده – وفي المنطقة ككّل.
السياق الجيوسياسيّ
كان احتمال تفكّك العراق يعني الشروع في سلسلة من التداعيات. أولاً، يمكن احتمال استقلال الأكراد والتوسع في المنطقة الكردية لتشمل كركوك الغنية بالنفط أن يشجّع الأكراد العراقييّن على إعلان الاستقلال ووضع ذلك في إطار حركات للمطالبة بالانفصال في جميع أنحاء المنطقة. وعلى الرغم من التحسّن في العلاقات بين أنقرة وأربيل، إلاّ أن هذه التطورات يمكن أن تزعزع الاستقرار في تركيا. ثانياً، يمكن عدم تماسك العراق أن يسمح للجماعات المسلحة بتصدير العديد من مقاتليها إلى البلدان المجاورة، مثل المملكة العربية السعودية والأردن وسوريا، وحتّى إلى تركيا. وثالثاً، ستكون إضافة مزيد من القلاقل وعدم الاستقرار على الحدود في تركيا بمثابة عامل مثبّط لأعضاء الاتحاد الأوروبي في ما يتعلّق بقبول تركيا كعضو كامل العضوية في تلك المنظمة. ومن المفارقات أنّ أيّ زيادة في النفوذ التركي في كردستان يترجم تغييراً أكبر في بغداد بسبب الدور الكردي الحاسم في العاصمة العراقية. وباختصار، بلعب دور في شمال العراق، تلعب أنقرة دوراً في تحديد معالم الوجود السياسي لعراق المستقبل. و الأكراد في تركيا لا ينظرون بعين الرضا إلى حكومة حزب العدالة والتنمية عندما تدخل في عداء نشط تجاه أربيل. كما أنّ التعاون مع حكومة إقليم كردستان حقّق أيضاً بعض الأهداف التركية التي كانت صعبة المنال في وقت سابق، وخاصة في اتجاه ضغط كرديّ عراقيّ على حزب العمال الكردستانيّ.
حدود السياسة الخارجية
يرتكز التحوّل في المواقف التركيّة تجاه العراق أيضاً إلى رؤية السياسة الخارجية الجديدة لحزب العدالة والتنمية. فقد جاء الاخير إلى السلطة بهدف تنشيط السياسة الخارجية التركية التي كانت مرتكزة إلى الداخل. وعمل الحزب على الاستفادة من الفراغ الناشئ عن حرب إدارة بوش في العراق، فبدأ في فرض نفسه كقوّة إقليميّة، بصفته الوسيط في عدد من الصراعات. وفي إطار السياسة العامة التي وصل البعض إلى تسميتها “العثمانية الجديدة”، فقد كانت تركيا توسّع معالم نفوذها في المناطق التي كانت ذات يوم جزءاً من الإمبراطورية العثمانية. ولدى مهندس هذه السياسة الخارجية الجديدة، وزير الخارجية الحالي أحمد داود أوغلو، جدول أعمال أكثر طموحاً بكثير – وهو جعل تركيا قوة عالمية. على أن يكون ذلك من خلال الاستفادة من علاقات تركيا الثقافية والتاريخية وعضوية حلف شمال الاطلسي، والترشيح للاتحاد الأوروبي، وإحداث النمو الاقتصادي السريع.
السياق المؤسّسي المحليّ
إن التغييّرات الجذرية في سياسة تركيا تجاه العراق لم تكن ممكنة من دون تطوّرات مهمة في السياق المؤسّسي المحلي التركي. وكان ظهور ونجاح حزب العدالة والتنمية كطرف مناهض للسلطات الحاكمة قد أدّى إلى حد ما إلى تحضير الساحة لمواجهة بينه وبين الدولة. فالمؤسسة المدنية- العسكرية التركية تعلن دومًا عن خوفها من أسلمة المجتمع التركي، في حين ساعد أداء الحزب في قضايا الأمن القومي الساخنة على زيادة الضغط عليه أكثر فأكثر.
في واقع الأمر، قام حزب العدالة والتنمية بالقليل في السنوات الأولى من حكمه تجاه المسألة الكردية (بالمعنى الواسع)، واتبع أساساً السياسة التقليدية التي تؤكد على الطبيعة الإرهابية لهذه المشكلة الداخلية وعدم شرعية حكومة إقليم كردستان. وكان هناك استثناءان فقط، أولهما مهمات تانر في شمال العراق وثانيهما خطاب عام ٢٠٠٥ الذي أطلقه أردوغان في مدينة ديار بكر، في قلب جنوب شرق البلاد، حيث اعترف بأنّ الأكراد لم يعاملوا معاملة طيبة خلال تاريخ الجمهورية التركية كله. ومع ذلك، لم تكن هناك متابعة للخطاب، والتوقّعات التي أثارها تبخّرت في وقت قريب. وأردوغان في وقت لاحق بدأ يتخذ موقفاً معادياً من “حزب الديموقراطية والمجتمع في تركيا” المؤيد للأكراد، والذي يعتبر أهم العناصر التي تمثل الحالة القومية للمجتمع الكردي والذي يتقارب مع حزب العمال الكردستاني.
لقد كانت مسألة إصلاح العلاقات المدنية – العسكرية دائماً على رأس أولويات حزب العدالة والتنمية ولكن في إطار الاهتمامات المخفية وغير الظاهرة على جدول الأعمال اليومي. وكان الدافع لدى الحزب من السعي لعضوية الاتحاد الأوروبي هو حاجته للحدّ من صلاحيات الجيش الواسعة وحماية مستقبل الحزب من “الجنرالات الحشريين”. وكان حلّ القضية الكردية هو أيضاً جزءاً من هذا البرنامج، لأن التمرّد قد مكّن الجيش من الحفاظ بصورة واضحة وحاسمة على دوره في المجتمع.
السياق المجتمعي
كما تغير السياق المجتمعي في تركيا إلى حد كبير. أولاً، هناك شعور عميق بالتعب والإجهاد بسبب الحرب الطويلة. وفي جنوب شرق البلاد في المنطقة الكردية صار هذا الشعور عميقًا جدّاً، وتجلّى ذلك في العديد من الطرق. على سبيل المثال، كان حزب العمال الكردستاني يتعرّض لضغوط غير مباشرة تحضه على البحث عن وسائل سلمية، لأن المواطنين صاروا بدورهم أكثر ميلاً للعمل السياسي في التعبير عن آرائهم.
عوامل التغيير المفتاحيّة الأساسية
ليس هناك شك في أنّ أهم الدوافع للتغيير في السياسة التركية تجاه الأكراد كان وجود كل من أردوغان وغول وأوغلو. لم يكن أي من هؤلاء الأفراد الثلاثة جديدًا بالنسبة لهذه القضايا وكانوا يعرفونها جيدًا. وكان غول قد نشط جداً في السياسة الخارجية وقت الظهور السابق لحزب العدالة والتنمية.
في الواقع، وبدءاً من التسعينات، كان غول هو المفكر الرئيسي للسياسة الخارجية وهو الناطق باسم الأحزاب الإسلامية، في حين قدم أردوغان واحداً من التقارير الأكثر تقدميّة في وصف الحالة الكردية حتّى ذلك الوقت وقدمه في ذلك الوقت لنجم الدين أربكان، زعيم الحزب آنذاك، أي عام ١٩٩١. وفي عام ٢٠٠٥ ، قام أردوغان بحملته الرسمية الأولى في القضية الكردية بكلمة وجدت استقبالاً جيداً والتي اعترف فيها بأن “المسألة الكردية” هي أكثر من مجرد الحرمان الاقتصادي وبأن الدولة التركية قد ارتكبت العديد من الأخطاء تجاه سكانها الأكراد. ومع ذلك، لم يتمكّن أردوغان من الحفاظ على الزخم الذي ولّدته ملاحظاته، لأنّه كان يواجه مناخاً أكثر صرامة في أنقرة وقتها، ناهيك عن تجدّد العنف من جهة حزب العمال الكردستاني. وعلى الرغم من ذلك، فإن الكثير من التغيير في سياسة تركيا تجاه العراق – وعلى نحو أكثر تحديداً، سياستها في شمال العراق، والتي شكلت جوهر المخاوف التركية – لم يكن ليأتي من دون موافقة من الجيش، والمبادرات التي قام بها موظفو وزارة الخارجية، أو الجهود التي تبذلها منظمة المخابرات الوطنية التركية. ومما لا شك فيه، هناك ظروف جديدة على الأرض وفرص في المرحلة الحالية أدّت إلى تمهيد الساحة لإجراء تغييرات في السياسة التركية. وقد لعب الأفراد داخل المؤسسات المهمة دوراً كبيراً وحاسماً في تركيا، حيث كانت المسائل الإيديولوجية والخطاب حول الأكراد وحقوق الأكراد من المحرمات.
القيود المفروضة
على السياسة الجديدة
تحتوي سياسة تركيا الجديدة تجاه العراق على عناصر دفاعية وأخرى توسعية، وهي دفاعية بقدر ما أنها لا تزال تبنى على أساس برنامج لاحتواء القومية الكردية. وقد كان هذا دائماً موضع قلق أنقرة الأول، بصورة يرجع تاريخها إلى ١٩٢٦ تقريبًا عندما وافقت تركيا على اندماج الموصل في العراق.
وهي أيضاً سياسة توسعية في أنها تسعى إلى تحقيق أقصى قدر من التأثير التركي في جميع أنحاء المنطقة والعراق بشكل خاص، مع التطلّع إلى كسب أوضاع تتناسب مع ظروف يعتقد الأتراك أنهم يستحقونها. ولأنّ مستقبل العراق سيكون له قدر هائل من التأثير على كيفية تطور هذه المنطقة، تظلّ تركيا على إدراك بأنّ لها مصلحة في التأثير في هذا المستقبل. إنّ العراق الغني بالنفط هو مصدر للنفط والغاز وهو سوق للسلع المصنعة في تركيا.
ويمكن انهيار مقترحات الإصلاح في المسألة الكردية في تركيا أن تكون له آثار خطيرة جداً بالنسبة للعلاقات بين البلدين. وهناك بالفعل علامات واضحة على أنّ حزب العدالة والتنمية قد فقد الكثير من حماسته لمواصلة مبادرته الكردية المحلية، وعلى أقل تقدير إلى مرحلة ما بعد الانتخابات المقبلة المقرر إجراؤها في صيف ٢٠١١. وهذا من شأنه تفادي الحاجة لنزع حزب العمال الكردستاني سلاحه بنفسه، والأهم من ذلك أن هذا الوضع يمكن أن يؤدي إلى زيادة العنف في المناطق الكردية في تركيا.
إن المنازعات التي قد تنشأ بين بغداد وأربيل حول “استكشاف”، والأهم من ذلك “تصدير” النفط قد تضع أنقرة في وضع صعب. على سبيل المثال، إذا أصرّ الأكراد العراقيون على تصدير النفط والغاز عبر تركيا في حين كانت بغداد تفضل خيارات غير تركية، فإن تركيا ستكون أكثر إيجابية في انحيازها إلى أربيل أكثر من بغداد. ومن شأن ذلك أن يشكل ورطة محرجة بالنسبة لأنقرة، وهي التي ظلّت من دعاة كون المركز في العراق أقوى من الأقاليم. وبصفة عامة فإن عدم الاستقرار في العراق من المرجح أن ينعكس سلباً على العلاقات التركية-العراقية، وستسعى أنقرة لحماية نفسها من أيّ عنف، وخاصة بسبب التنوّع الطائفي النابع من حدودها الجنوبية.
الخيارات السياسية المتاحة
للولايات المتحدة
إن لدى واشنطن حليفا محتملاً في العراق هو تركيا، وهو الحليف الذي تراه ينظر بالعين نفسها وبالمنظار ذاته إلى معظم القضايا على المدى المتوسط. وعلى الرغم من النيات التركية والتطلّعات الأخرى على المدى الطويل والتي قد لا تتفق دائماً مع مصالح الولايات المتحدة، إلاّ أنّه في غضون ذلك، فإن كلا البلدين بحاجة إلى بعضهما في العراق. إن جميع الأطراف – واشنطن وأنقرة وبغداد، وحتى أربيل(الأكراد) – يريدون أن يروا تحولاً نحو عراق مستقرّ وموحّد وأن يصبح الكيان السياسي العراقي هو ذاك الذي يشهد التعددية ويحسّن الكثير من الأوضاع الاقتصادية لشعبه.
هناك ثلاثة مجالات رئيسية يمكن فيها كلاً من الولايات المتحدة وتركيا العمل معاً وهي:
أولاً، ينبغي أن تساعد الولايات المتحدة على الحفاظ على العلاقة الكردية-التركية على المسار الصحيح. ثانياً، يتعيّن على الولايات المتحدة التأكيد على أنها لا ترغب في بقاء حزب العمال الكردستاني في إقليم كردستان بعد رحيلها. وهذا أمرٌ صعب لأنه يتطلب من الحكومة التركية المضي قدماً في الانفتاح على المسألة الكردية المحلية الخاصة بها، والتي من شأنها أن تمكّن مقاتلي حزب العمال الكردستاني من العودة إلى ديارهم أو التسريح والتفرّق. ثالثاً، ينبغي على الديبلوماسيين الأميركيين أن يكونوا أكثر شمولاً وإدماجاً في التعامل مع نظرائهم الأتراك في العراق خلال هذه الفترة الانتقالية. إنّ الأتراك يتوددون بقوة إلى الطوائف المختلفة في العراق وسيكون لهذا على الأرجح أفضل الأثر في مجال العلاقات مع السنة والشيعة قياساً إلى علاقات الولايات المتحدة. إنّ المساعدة على تحسين وتطوير مشاريع تجارية مشتركة وطرق النفط والغاز بين تركيا والعراق وحكومة إقليم كردستان هي مصلحة مباشرة للولايات المتحدة…
)كاتب كردي(