تأسيس الصراع العربي الإسرائيلي ؛ الإنسان أولا
مصطفى الحاج صالح
لم يقتصر تغييب الإنسان في المنطقة العربية عن الشأن العام من خلال آليات المنع والإقصاء المختلفة؛ التجهيل من جهة والقمع المنظم بنوعيه الوقائي الاحترازي والعلاجي القائم على العقاب والتأديب بل أولا وقبل كل شيء سلبت منه قضاياها لصالح قضايا فاسدة أو مقلوبة ومن تلك القضايا المقلوبة ؛ ما يسمى بالقضية الفلسطينية أو قضية احتلال فلسطين ؛ منذ البداية أفسد الأمر من خلال طرح القضية باعتبارها مشكلة احتلال أرض وليس مشكلة بشر .
مذ قام الكيان الصهيوني الإسرائيلي المصطنع بزعم أنّه دولة لشعب من دون أرض والصراع القائم في المنطقة بينها وبين جيرانها العرب يقوم من أجل الأرض؛ وفق صيغة اسرائيلية غربية متجددة تضعنا نحن العرب في خانة المعتدي ؛ خانة من لا يرغب بالسلام من أجل أرض ؛ أرض مجرد أرض ؛ في حين لديهم ـ العرب ـ الكثير من الأراضي؛ أراضي واسعة ؛ بور غير مستصلحة وصحراوية فيها نفط ؛ العقل السليم المحايد ناهيك عن المنحاز سيجد الأمر كذلك ولقد وقع العرب أنفسهم في هذا الفخ ليس على مستوى الأنظمة بل وعلى مستوى الأحزاب والتيارات السياسية التي لم ترى ما هو أبعد من الجولان أو ما هو أبعد عن فلسطين ذاتها؛ لم ترى الإنسان وإنْ رأته فلا تراه إلا كمناضل أو مجاهد يضحي بنفسه في سبيل الأرض . ألأرض هي القيمة أما الإنسان فعديم القيمة؛ كفة الإنسان هي السفلى وكفة الأوطان هي العليا ولأنّ الأمر كذلك وفق منطوق نصبه لنا أعدائنا تولت أنظمة الطغيان أمر تحويل هذين الإقنومين إلى سلاح تدميري معطل ومشل في آن واحد فمن يستطيع المطالبة بتحسين لقمة عيشه والعدو على الأبواب؛ يحتل الأرض ويهدد بمزيد من الاحتلال .
كل المبادرات السياسية قامت على هذا المبدأ ؛ على مبدأ اعتبار المشكلة برمتها أمر صراع على أرض ، معظم الحروب التي جرت في المنطقة وقعت بسبب الأرض في حين ظل الإنسان غائبا وهو إما لاجيء تـُرد مشكلته إلى حرمانه من أرضه أو مواطن مكلف بالتضحية من أجل وطنه وأرضه ؛ سواءا كان مقاتلا[ كافة أنواع المقاتلين من الفدائي والجندي العادي إلى المجاهد المتحزب] وهذا المغيب المبعد هو ذاته المكلف بالتضحية ؛ الأنسان الغائب هو نفسه مادة الحروب لكنه بالقطع ليس غايتها .. التأكيد على مبدأ الأرض ؛ غيب غاية الصراع الحقيقة ؛ غيب أهداف الأعداء كما غيب في تفس الوقت أي إمكانية حقيقة للتعامل مع النظم القائمة التي تستمد بعضا من شرعية وجودها من هذه القضية بالذات ؛ على الأخص النظام السوري ومع أنّ النظامين الحاكمين في كل من مصر والأردن قاما بحل مشاكلهما على الأرض مع إسرائيل إلا أنهما لم يتخليا عن تصوير الصراع بهذا الأطار ينجلى ذلك بوضوح من خلال أساليب معالجتهما للشأن الفلسطيني مع الفلسطينيين أنفسهم على مختلف أطيافهم ومع الإسرائليين.
هل الصراع على أرض الواقع صراع من أجل الأرض..؟ وهل اليهود الأسرائيليين جاؤوا من الشتات من أجل أرض مروا بها ذات يوم كما مر عابرون كثر وهل ترى الدول الكبرى في أجنداتها الخفية الصراع باعتباره صراعا على الأرض ..؟ بالنسبة لي لا يهم ما الذي يراه الخصوم ؛ مايهمني في هذه العجالة هو الدعوة إلى إعادة تأسيس الصراع ؛ باعتباره صراع من أجل الإنسان .؛ الإنسان الذي يعمر ويبني؛ الإنسان زارع الزيتون وزارع البلح فليست حجارة الجولان السوداء بأغلى من الإنسان الساكن هناك في ظل الاحتلال والمسجد الأقصى ليس أعلى قيمة وشأنا من أطفال غزة والضقة .. آلاف بل مئات الألوف قتلوا؛ استشهدوا ؛ جزروا في مذابح ممتدة على مدى رقعة سوريا الطبيعية؛ فلسطينيين؛ لبنانيين؛ أردنيين؛ سوريين ومازالت الأرض محتلة ؛ أموال هائلة هدرت ومازالت الجولان محتلة ؛ ثروات البلاد نهبت ومازالت الأرض محتلة .. فما الذي يدفعنا إلى تبني طرح مغلوط منذ البداية ..؟ ليس صراعنا ضد الصهاينة الإسرائليين مرده إلى الأرض بل لأنّ وجود إسرائيل بيننا عطل مشاريعنا المستقبلية كلها ولأنّ حروب أسرائيل المتجددة ضدنا أعاق تنميتنا وأتاح في نفس الوقت لنوعية متدنية من الأنظمة البقاء كل تلك السنين لأنّ حروب إسيرائيل المتكررة قتلت أطفالنا ونسائنا ولأن أسلحة دمارها الشامل تشعرنا بالخوف والرعب دائما ؛ ما نريده وما نطمح إليه حقا هو أنْ نعيش كبقية شعوب العالم من دون خوف ولا تهديد ؛ من دون حروب .
إعادة تعريف الصراع وتغليب الجانب الإنساني فيه ؛ كما أرى؛ مكسب كبير لنا نحن العرب ؛ فإلى جانب تقويته لشرطنا التفاوضي بغض النظر عن المفاوض ؛ يحررنا من أسر أقانيم مغلوطة وضعت في مرتبة المقدس وتأسيس الصراع على هذا النحو يمنح القضية الفلسطينية زخما أكبر هي الآن بأمس الحاجة إليه .. فمتى تنكسر تلك الطواطم ومتى نتحررمن سحر الرمل والتراب لنرى من خلق في أحسن تقويم فننصفه بنسبة الصراع إليه كي يستطيع التخلص من الاستبداد والطغيان بكافة أشكالهما