صفحات ثقافية

ميرال الطحاوي: في عزلة تلال بروكلين

null
في روايتها الرابعة، تتبع الكاتبة المصريّة خيط سرد هو أشبه بانفتاح أنثوي. بطلتها هند خرجت إلى حريّة نيويورك، بعد سنوات خلف الأبواب الخانقة لمجتمع تقليدي متزمّت. وسط حرملك بروكلين، تستعيد روائح حريم طفولتها… عالم من الانهيارات والكوابيس المحسوسة، والخيارات المطبوعة بالتعاسة والوحدة
دينا حشمت
رائحة النفتالين في معطف قديم «اشترته من مخزن للملابس المستعملة»؛ رائحة العجائز التي تميّز صديقتها إيميليا؛ رائحة البيرة في أحد بارات بروكلين؛ رائحة الحشيش النفّاذة من سيجارة رفيق لاجئ من أفغانستان. كلّها روائح تؤلّف عالم هند اليومي في غربتها، وتوقظ لديها ذكريات منبعثة من قرية الطفولة، تلال فرعون.
في روايتها الرابعة «بروكلين هايتس» (دار ميريت ـــــ القاهرة)، تحكي ميرال الطحاوي أيام امرأة وحيدة هاجرت مع طفلها إلى نيويورك. كأنّها تبحث «عن تلك البنت الصغيرة التي كانت تسكنها»، على خلفية أسلمة المجتمع المصري في الثمانينيات. عمل الروائية المصرية بلغ القائمة القصيرة لجائزة «بوكر» العربيّة، وحاز «جائزة نجيب محفوظ» التي يمنحها قسم النشر في «الجامعة الأميركية في القاهرة».
تتحوّل الروائح بالنسبة إلى البطلة إلى طاقات على الذكريات والماضي. رائحة النفتالين تذكّرها بالضيفة، إحدى زوجات جدها. «قروية صغيرة منكمشة»، ظلت تحمل هذا اللقب، لأنّها مسيحية أتت من قرية مجاورة. رائحة العجائز تعيدها إلى الجدة زينب التي كانت تأتي أسبوعياً إلى البيت الكبير لتخبز. رائحة البيرة هي رائحة أبيها، ذلك الرجل الأنيق الوسيم الذي كان يحب المزاج، ويهجر أمها للمبيت في مَضيفة بناها بالقرب من البيت، مع الغازية فاطمة القرومية. رائحة الحشيش هي رائحة مدرّس اللغة العربية، قبل أن يعود ملتحياً من زيارة إلى السعودية ويحاول إقناعها بأنّ شعرها «فتنة».
تستعيد هند التي قرّرت الهجرة إلى أميركا بعدما هجرها زوجها، عالماً كاملاً بتفاصيله الصغيرة الدقيقة، وطقوسه اليومية: من الخبيز إلى لعبة الحجلة، مروراً بقصص أبيها، وزياراتها لبيوت صديقاتها. تستعيد وهي «تمشي حرة طليقة في شوارع بروكلين»، عالم قرية عاشت فيها «حبيسة الجدران»، وراء باب كان «دائماً عالياً ومغلقاً». طفولة أمضتها إلى جانب أم تعيسة ضعيفة، كانت تقضي أيامها في انتظار عودة الأب من المَضيَفة، ولا تبتهج إلا في حضوره.
تُلحّ صاحبة «الباذنجانة الزرقاء» على شعور بطلة روايتها بالحرية والانطلاق في شوارع مدينة لا يعرفها فيها أحد. كذلك تجعل من الغرفة الوحيدة التي تسكنها هند مع ابنها في بروكلين، نقيض الدار الريفية الواسعة والخانقة في آن. أمّا لقاءاتها مع أمثالها من المهاجرين، فأبعد ما تكون عن النظام الاجتماعي الصارم الذي كان يحصر علاقاتها الاجتماعية في البلد، ضمن دائرة عائلتها، وحلقة زميلاتها في المدرسة وأمهاتهنّ.
هكذا ترسم صاحبة «نقرات الظباء» عالم بنت ترعرعت في محيط عائلة بدوية في دلتا مصر في الثمانينيات. مثلما في رواياتها السابقة، تستعير بعض التعابير من اللهجة البدوية التي تنتمي إليها. ترسم عالماً تتغيّر حدوده رويداً رويداً حول الطفلة الخجولة. مدرّس اللغة العربية الذي كان يعاكس البنات، ليس الوحيد الذي أصبح ملتحياً. هند نفسها كانت أوّل من لبس «الحجاب المُسدل الطويل» في المدرسة. ومع تنامي وتيرة «زيارات العمل» للسعودية، كانت العديد من الشخصيات لا تعود أكثر تحفّظاً وتديّناً فقط، بل أيضاً بمشاريع مريبة (أم إحدى صديقاتها كانت تتنقل بين البلد والأراضي المقدّسة في رحلات تزويج بنات القرية للسعوديين). التسامح كما ترمز إليه شخصية الضيفة، اختفى شيئاً فشيئاً ليحل محله التوتّر الطائفي، كما تشهده مصر حالياً.
لم تجد هند مأوى في النهاية من انهيار العالم حولها، وانهيار زواجها، إلا غرفة صغيرة في بروكلين، تتحوّل فيها العزلة إلى كابوس يومي ملموس. تُلحّ ميرال الطحاوي على أن بطلتها «امرأة وحيدة بائسة»، ليست قادرة على بناء علاقات إلا من النوع العابر. صحيح أنّ تلال بروكلين سمحت لها بالهروب من جو اجتماعي قاهر، إلا أنّ الحي النيويوركي يبدو في الرواية مكاناً تبلورت فيه حقيقة سابقة لتجربة المنفى… حقيقة تلك العزلة الصارخة.
العزلة ليست العامل المشترك الوحيد بين تلال فرعون، و«بروكلين هايتس»، أو بنحو أدقّ الأماكن التي تتردّد عليها هند، وهي أماكن يرتادها المهاجرون العرب والمسلمون في الولايات المتحدة. إذا كانت هذه الفضاءات «متعدّدة الإثنيات والعرقيات»، فهي ما زالت محكومة بقوانين العزلة الاجتماعية نفسها، والحدود الإثنية، والتحكم بمصير المرأة… يظهر ذلك مثلاً في «الغيتو اليمني» الذي لا تخرج نساؤه حتى للتسوّق، أو في عالم المسلمات اللواتي يجتمعن في وكالة غوث اللاجئين. في النهاية، لا تختلف هذه الفضاءات كثيراً عن «تلال فرعون». حتّى في مقهى «نجيب الخليلي» الذي تشعر فيه هند براحة وألفة نسبيتين، تجد نفسها في عالم ذكوري بحت، يدفعها لتتشبّث يائسةً بالروائح والأصوات الأليفة الآتية من ماض بعيد.
ومع أنّ بطلة «بروكلين هايتس» وجدت في أميركا فضاءً حرّاً، بقيت بائسة خائفة، أسيرةً لهوسها بالأبراج. هل قدرها قدر كل النساء من قبلها، قدر أمها والجدّات، وهو هجران الرجال، والفراغ، والوحدة، والعجز عن الاستمتاع باللحظة الحاضرة؟ هذا ما يبدو أن صاحبة «الخباء» تريد قوله لنا، في نصّ «تخلّصت فيه من الخجل الذي لازم كتاباتها». كأنّ العزلة والقهر الاجتماعي يلاحقان كل امرأة، في تلال فرعون كما في تلال بروكلين.
سيرة امرأة حلمت بأدوار البطولة
محمد خير
في شقّتها الصغيرة، في الضاحية النيويوركية حيث ارتحلت تاركة خلفها كل شيء، تخشى هند أن تموت في الليل، فيستيقظ الطفل في الصباح، يفرك عينيه، ويهزّ جسدها فلا تصحو ولا تتحرك. لهذا، «كتبت على الحوائط أسماء أناس تعرفهم، أو لا تعرفهم جيداً. إميليا، سعيد، فاطيما، ثم وضعت جواز سفره على الطاولة، الآن بإمكان أي شخص أن يجده، ويرسل بطفلها إلى أبيه، بإمكانه أن يحمل جواز سفره، ويعود تاركاً جسدها لصاحب البيت والشرطة، أو وكالة إيواء اللاجئين، كي يلقوا به في أية مقبرة». «بروكلين هايتس» هو الكتاب الخامس للمصرية ميرال الطحاوي، بعد ثلاث روايات ومجموعة قصصية.
تفتح الرواية مجدداً باب الحديث عن الكتابة النسوية. فشروط الرواية بوصفها فناً درامياً لا تتحقق هنا بالشكل المتعارف عليه. لسنا بصدد حبكة تؤجج صراعاً أو عقدة بانتظار الحل. السرد هنا انفتاح أنثوي على ذكريات بطلة الرواية.
تصل هند المصرية إلى نيويورك، مستفيدة من تأشيرة هي كل ما بقي لها من زوجها بعد انفصام علاقتهما. تسكن في ضاحية بروكلين القديمة، حيث نستعرض معها ذكرياتها المصرية عن حفنة متنوعة من نساء الطفولة، لا يخترقهن سوى الأب والزوج، في سياق متواز مع نماذج كوسموبوليتانية ـــــ نسائية أيضاً في معظمها ـــــ تلتقيها في نيويورك. في المدينة الأميركية تحوّلت هند إلى عاملة نظافة بسيطة في أحد المطاعم، في سبيل الحصول على إقامة دائمة، وبلد جديد ينشأ فيه ابنها. يتحوّل الابن كل يوم إلى طفل أميركي، يتمسك بها لأنها أمه ولأنه لا يعرف غيرها. لكنه يكتشف كل يوم كم هي بائسة، مترهّلة مهزومة، ولا تتمتع بأي قدر من
الجمال.
قد تكون حوارات الطفل وأمه باللغة الهجينة، أبرز ما في الرواية، فالأحداث هنا لا تتصادم بل تشبه لوحة عرض لشخصيات من الحياة، تقترب وتبتعد عن الشخصية الساردة. مرةً واحدة اقترب منها شخص أكثر من اللزوم، هو جارها تشارلي، مدرب الرقص الستيني الممشوق… لكن هند التي تركت زوجها بعد خياناته المتعاقبة تبدو مصممة على التعاسة «لا تريد أن يذكّرها أحد بممكنات لم تجدها في الحياة (…) تريد أن تشعر بتعاسة، أن تكون وحيدة ومهملة، وبلا
قيمة».
الابن الصغير ومدرب الرقص، هما فقط من يمنحان «بروكلين هايتس» بُعداً «درامياً». ما هو غير ذلك موازييك من شخصيات الطفولة الريفية، في عالم حريمي مستسلم لسطوة ذكورية كاملة. على الضفة الأخرى، نلتقي «حريماً» من جنسيات أخرى، الصومالية فاطيما التي تحلم بأن تكون ناعومي كامبل أخرى، والروسية العجوز إميليا التي انتهت إلى جمع الأحذية المستعملة وبيعها… عالم نسائي متنوع لكنه يتمحور دائماً حول الجسد المقهور، المسلّع، المحبط، وامرأة حلمت دائماً بدور البطولة، لكن حياتها، وجسدها لم يمنحاها سوى الأدوار المساعدة.
الأخبار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى