الحراك في بنية النظام الشرق الأوسطي الحديث
محمد سيد رصاص
قام النظام الشرق الأوسطي الحديث بحكم سيطرة لندن وباريس على المنطقة الآسيوية من الممتلكات العثمانية بعد انهيار حكم الآستانة في عام1918، وعملياً فإن العاصمتين البريطانية والفرنسية قد قررتا في مؤتمر سان ريمو (19- 26 نيسان 1920) فرض الإنتداب الفرنسي على سوريا (بما في ذلك لبنان) وبريطانيا على العراق وفلسطين، وهو ما صادقت عليه معاهدة سيفر (10 آب 1920)، ثم، وبعد أن تمً تدمير مملكة فيصل بن الحسين المعلنة في دمشق في 8 آذار1920 في معركة ميسلون (24 تموز) وإثر هذا إعلان الجنرال غورو “دولة لبنان الكبير” في 30 آب وما أُعطيَ لفيصل من ترضية بريطانية في بغداد بدلاً من دمشق في 23 آب 1921، وقبل هذا التاريخ بخمسة أشهر إمارة في شرق الأردن لأخيه عبد الله الذي أعلنه مؤتمر عراقي عام بدمشق ملكاً على العراق في 8 آذار 1920، فإن مجلس عصبة الأمم قد أقَر في 24 تموز 1922 نظام الإنتداب على سوريا ولبنان وشرق الأردن وفلسطين والعراق. بالتزامن مع هذا أعلن الجنرال البريطاني اللنبي “انتهاء نظام الحماية البريطانية على مصر” ومنحها “الإستقلال” في تصريح 28 شباط 1922، وقامت لندن بدعم الإنقلاب العسكري لرضا بهلوي في شباط 1921 في طهران المضطربة منذ الثورة الدستورية لعام 1906 وتداعياتها.
كانت مشكلة لندن الكبرى مع مصطفى كمال في تركيا عندما رفض الإعتراف بمعاهدة سيفر، وقد قام البريطانيون بمقايضة اعترافهم بما فرضه عسكرياً في آسيا الصغرى وتراقيا مقابل تخلي تركيا عن مجمل حقوقها في المقاطعات العثمانية الآسيوية السابقة في معاهدة لوزان (24 تموز 1923)، وهي مقايضة لا يمكن بدونها تفسير الإعتراف الغربي بالجمهورية التركية المعلنة في 29 تشرين الاول 1923. وهو ما حصل مشابه له في شبه الجزيرة العربية لما قبل البريطانيون في معاهدة جدة (20 أيار 1927)، من خلال اعترافهم بمملكة نجد والحجاز، بما فرضه عبد العزيز آل سعود من وقائع عسكرية ضد حليفهم القديم الشريف الحسين بن علي.
لم يكن الحراك في هذا النظام خارجاً عن المرسوم بريطانياً: كان جرح الملك فيصل الدمشقي شوكة شرقية تم تحريكها من قبل الهاشميين (ولندن) ضد خاصرة الفرنسيين في سوريا طوال ربع قرن من الزمن، وعندما خرج عبدالله بن الحسين من اجتماعه بالقدس مع وزير المستعمرات البريطاني وينستون تشرشل (28 آذار 1921)، توجه مساعده عوني عبد الهادي له بالكلمات التالية: “فهمت من أقوال المستر تشرشل أن تتولى أنت حكم المنطقة التي انفصلت عن سوريا بعد أن انتهى حكم أخيكم فيصل عنها وأصبحت تحت النفوذ البريطاني، وأنه يؤمل أن لا يمضي وقت طويل حتى تعتلي سموكم عرش سوريا في ضوء ما سيبذله من مساعٍ في هذا السبيل” (“عوني عبد الهادي: أوراق خاصة”، منشورات مركز الأبحاث لمنظمة التحرير الفلسطينية، بيروت1974، ص49). وعندما امتد الألمان إلى بغداد، عبر رئيس الوزراء العراقي رشيد عالي الكيلاني، فإن لندن قامت بإسقاط من تجاوز الخطوط الحمر البريطانية ببغداد عبر حرب عسكرية شنتها ضد العراقيين على مدار شهر أيار 1941، وهو ما حصل لسبب مشابه أيضاً في 26 أيلول 1941 بطهران لما استبدلت الشاه رضا بهلوي بإبنه محمد، ثم جرى حدث قريب منه في القاهرة في 4 شباط 1942 لما اقتحمت الدبابات الإنكليزية قصر عابدين وأجبرت الملك فاروق، الذي أبدى وكثير من المقربين منه عواطف ميالة للألمان الذين كانت دباباتهم عند الحدود الغربية، على تعيين زعيم حزب الوفد النحاس باشا رئيساً للوزراء.
هنا، كانت نتائج الحرب العالمية الثانية مؤدية إلى تضعضع قوة لندن العالمية، وإلى بروز العملاقين الأميركي والسوفياتي إلى الواجهة: كان الإنتقال في القوة العالمية مؤدياً إلى امكانية حراك مستقل على المستوى الإقليمي. ظهر هذا أولاً عند رئيس الوزراء الايراني محمد مصدق لما قام بتأميم الشركة الانكليزية- الفارسية للنفط في أيار 1951، ثم ثانياً في القاهرة لما أعلن رئيس الوزراء المصري النحاس باشا في 8 تشرين الاول 1951 عن الغاء معاهدة 1936 مع لندن واتفاقية 1899 للحكم الثنائي البريطاني- المصري للسودان. أمام هذا الوضع وضعت لندن نفسها وراء واشنطن من أجل إعادة تنظيم الشرق الأوسط الحديث: في 13 تشرين الاول 1951 تم تقديم اقتراح أميركي- بريطاني – فرنسي- تركي (انضمت أنقرة للحلف الاطلسي – الناتو في 20 أيلول 1951) من أجل انشاء نظام أمني اقليمي سمي بـ”قيادة الشرق الأوسط: mec”. رفض النحاس باشا على الفور هذا المقترح، وفي سوريا، التي اعتبرها وزير الخارجية الأميركية دين أتشيسون في كانون ثاني 1951 “المفتاح إلى الوضع الاقليمي برمته”، فإن انقلاب الشيشكلي (29 تشرين الثاني 1951) يعزوه الباحث الأميركي دوغلاس ليتل (“الحرب الباردة والعمليات السرية: الولايات المتحدة وسوريا1945-1958″، في “فصلية ميدل إيست جورنال”، عدد شتاء 1990)، إلى موافقة الشيشكلي على (mec).
كان حريق القاهرة (26 كانون الثاني 1952) مؤدياً إلى انتهاء النحاس باشا وإلى فراغ مصري قام الضباط بملئه يوم “23 يوليو 1952”. في طهران تم اسقاط محمد مصدق أميركياً في آب1953. ظنت لندن أن الاتفاقية المصرية- الإنكليزية حول الجلاء عن السويس (19 تشرين الاول 1954) ستكون مدخلاً مناسباً من أجل استيعاب القاهرة في نظام أمني اقليمي شامل للمنطقة :حاولت القاهرة عبثاً إعاقة ذلك من خلال تقارب استغرق الأسابيع الثمانية الأخيرة من العام مع أنقرة قبل أن يدير عدنان مندريس ظهره للمصريين متجهاً نحو بغداد ولندن في إتجاه إقامة حلف بغداد (25 شباط-4 نيسان 1955). هنا، كان كسب عبد الناصر لسوريا، بين عامي1958 و1961 من خلال دولة الوحدة، مؤدياً إلى وفاة “حلف بغداد”.
استطاع عبد الناصر أن ينجح حيث فشل النحاس باشا ومصدق من حيث امكانية التأثير والنجاح امام القوى الدولية المؤسسة والراعية للنظام الاقليمي الشرق الاوسطي، وهو استعان بموسكو (والى حد “ما” واشنطن) ضد لندن بين عامي1955و1956 ثم ضد واشنطن مابعد طرح “مشروع أيزنهاور” (5 كانون الثاني 1957)، ثم اقترب من الاميركيين وابتعد عن السوفيات إثر تغيير النظام في بغداد في14 تموز 1958 وكان الشيوعيون لاعبين كباراً في النظام الجديد ضد القوميين وضد انضمام بغداد الى دولة الوحدة، وكان لهذا الإقتراب ثمرة في بيروت اسمها فؤاد شهاب: أدى حراك قوة اقليمية إلى تشجيع قوى الدولية لقوى اقليمية أخرى للظهور، كما حصل من واشنطن مع الرياض بعد ابتعادها منذ نيسان 1957 عن حلفها القديم مع المصريين ضد هاشميي بغداد. هذا أدى إلى “حرب باردة عربية”، وفق تعبير مالكولم كير، كان مسرحها الأكبر اليمن بين عامي 1962 و1970.
أدت وفاة عبد الناصر إلى عودة التحالف المصري- السعودي منذ زيارة الملك فيصل للقاهرة في حزيران 1971 وهو ما انضمت اليه دمشق، ليكون المظلة لحرب 1973. في تلك السنوات من عمر ذلك التحالف أصبح “الإقليمي” أكثر فاعلية من “الدولي”، ولم يقوَ الأخير إلا بعد انفراط ذلك التحالف الثلاثي في آذار 1975 بسبب انخراط السياسة المصرية في “الخطوة خطوة” نحو التسوية: عاشت المنطقة اضطراباً، في لبنان والخليج، مع انفراط ذلك التحالف، ولم تحصل عودة الى الاستقرار الاقليمي إلا مع عودة ثالوث “الرياض- القاهرة- دمشق” مع غزو العراق للكويت في 2 آب 1990، ما شكل موازنا لحضور واشنطن العسكري في المنطقة وفرض عليها مقابلاً لذلك في لبنان و”التسوية” و”عدم اسقاط الجدار العراقي أمام ايران”.
عاش عقد التسعينات بأكمله على ايقاع ذلك الذي انهار هذا مع 11 أيلول 2001 ومحاولة واشنطن، إثر ضرب برجي نيويورك، “إعادة صوغ المنطقة” عبر غزو العراق، الذي شهد بالتزامن معه تفارقاً سوريا- مصرياً، ثم تفارقاً بين دمشق والرياض منذ أحداث لبنان 2005. لم تستطع أي قوة عربية البروز أمام واشنطن الزاحفة إلى المنطقة، فيما كانت طهران المستفيد الأكبر مما فعله الاميركيون في كابول 2001 وبغداد 2003. استفادت دمشق من تعثر المشروع الأميركي بدءاً من عام 2006 لتحقق مكاسب في لبنان والعراق، وكذلك قامت واشنطن، بسبب ذلك التعثر، بتعويم الدور التركي منذ أواخر2007، وعلى هذه الخلفية عادت الرياض للعب دور “ما” في لبنان والعراق.
بين “مشروع أيزنهاور” و”ما بعد غزو العراق” لم تستطع واشنطن “ملء الفراغ” البريطاني في المنطقة: كان فشلها في ذلك، وخاصة في السنوات الاربع الماضية بعدما ظن الكثيرون العكس في السنوات الثلاث التي أعقبت احتلال العراق، مؤدياً إلى قوة غير مسبوقة، منذ 1918، للعامل الاقليمي، وبالذات في طهران وأنقرة، وعربياً عند دمشق أساساً التي أصبحت لاعباً قوياً ليس فقط في لبنان وإنما كذلك في العراق وفلسطين، فيما لا تزال الرياض أقل بكثير من قوتها الاقليمية التي كانت بين عامي1957 و1975، ومصر في حالة غيبوبة اقليمية أو “مغيّبة”.
النهار