نبوءات عن إرهابي قادم يُدعى السندباد البحري
صبحي حديدي
ظنّ الأمريكيون أنهم امتلكوا ناصية الرأسمالية الكونية بعد انهيار جدار برلين، فاتضح أنّ الصين هي المالكة الحقّة، وليس أمريكا أو أوروبا؛ وتلك ملكية تنبسط على نطاق عالمي بالطبع، ولكنها في شرق آسيا المسلمة تكتسب صفات خاصة، وتفضي إلى عواقب وخيمة، ليس أقلّها أنّ ‘صدام الحضارات’ الفعلي يجري هنا، قبل أية ساحة أخرى. صحيح أنّ المال السعودي يتدفق بصفة دائمة ومنظمة، ويموّل الكثير من المؤسسات والمنظمات والمشاريع والمطبوعات (بينها، على سبيل المثال، ترجمة ‘كفاحي’، كتاب أدولف هتلر، إلى الـ’بهاسا’، اللغة الرسمية في أندونيسيا)؛ إلا أنّ السؤال الأهمّ هو التالي: مَنْ سيفوز بقلوب وعقول أبناء شرق آسيا المسلمة، السعودية الوهابية أم الصين المادّية؟
هذه خلاصة الأفكار التي يسوقها الكاتب والمفكر السياسي روبرت دافيد كابلان، في مقالة بعنوان ‘الإسلام الشرقي وصدام الحضارات’، نشرتها صحيفة ‘لوس أنجليس تايمز’، وشاء لها كابلان أن تضيف المزيد من السياقات الصحفية (أي: الكليشيهات الخفيفة، المسطحة السطحية، سريعة الهضم) على كتابه الأحدث ‘الريح الموسمية: المحيط الهندي ومستقبل القوّة الأمريكية’. والكتاب، في تعريفه الرسمي، يسعى إلى تبيان الأهمية الحيوية التي تكتسبها هذه المنطقة، والأدوار التي تلعبها بلدانها (الهند، الباكستان، الصين، أندونيسيا، بورما، عُمان، سريلانكا، بنغلاديش، وتنزانيا) في التوازنات الكونية. ومن المنتظر أن تكون هذه المنطقة محكّ ربح أو خسران المواجهات القادمة حول الديمقراطية، واستقلال الطاقة، والحريات الدينية؛ وهنا، يشدّد كابلان، ينبغي أن تتركّز السياسة الخارجية الأمريكية إذا توجّب أن تبقى الولايات المتحدة قوّة مهيمنة في عالم دائب التغيّر.
وأياً كان الموقف من هذا التفكير الافتراضي، إذْ من المنطقي الإبقاء عليه عند حدود الفرضية حتى إشعار آخر، أو حتى تتكشف الدلائل الملموسة على تحققه جزئياً أو كليّاً، في وسع المرء أن يتوقف ـ بفضول، لدى مَنْ لا يعرف عمل كابلان معرفة كافية؛ وبقليل من الدهشة، لدى العارفين بمواقفه المتعاقبة من العرب بخاصة، والمسلمين عموماً ـ عند ربط الأطروحة بأسرها، أو بالأحرى تكبيلها، بمقولة ‘صدام الحضارات’، التي لاح أنّ التاريخ ألقى بها إلى واحدة من سلال مهملاته الكثيرة. فما الصلة بين هذا الصدام مع الإسلام والمسلمين ـ الافتراضي دائماً، في ذهن كابلان وفصول كتابه تحديداً ـ وحقيقة أنّ الخطوط الجوية اليمنية تنقل 200 ألف أندونيسي مسلم كلّ سنة، لأداء فريضة الحجّ (هل ينبغي أن يحجوا إلى مكان آخر، مثلاً، أو أن يهبط عددهم إلى 100 ألف فقط؟)؛ وتنظّم 4 رحلات إلى أندونيسيا أسبوعياً (الأمر الذي يتخوف منه كابلان، لأنه يعني توطيد الصلات بين حضرموت وجاوه)؟
أليست هذه، في أبسط قراءاتها الاقتصادية أو حتى الجيو ـ سياسية، محض تجليات عادية للعولمة، التي بُشّرنا ونُبشّر بأنها قدر محتوم لا فكاك منه؟ وهل يتوجب على ‘المال الوهابي’، بحسب تعبير كابلان، أن يُنفق في ترجمة مؤلفات وودرو ولسون وجون ماينارد كينز؟ ألا يُنفق المال ذاته، ولكن بأضعاف مضاعفة، على تشغيل مصانع السلاح الأمريكية، والمصارف، والبورصات، والحملات الإنتخابية لساسة أمريكا؟ هل يتجاسر أحد على الزعم بأنّ هذا المال ليس، في حصيلته الإجمالية القصوى، بين أفضل خادمي السياسة الخارجية الأمريكية في العالم بأسره، وليس في العالم العربي أو منطقة شرق آسيا المسلمة وحدها؟
لكنّ كابلان لا يتوقف عند هذه الوقائع العولمية، إذا جاز التعبير (لأنه ينظر، بقلق شديد، إلى حرص أبناء شرق آسيا المسلمين على متابعة برامج فضائية ‘الجزيرة’ باللغة الإنكليزية، ولا تفوته ملاحظة حفظ هؤلاء لجغرافية الأراضي الفلسطينية!)؛ بل يذهب أبعد، وأعمق في الواقع، حين يتخوّف من… شيوع الديمقراطية في بلدان مسلمي شرق آسيا! فهل في صالح المسلمين هناك، وفي كلّ مناطقهم، مثلما هو في صالح العلاقات الدولية والسلام العالمي، أن تعيش شعوب شرق آسيا في ظلّ أنظمة ديمقراطية، أم أنظمة استبداد وفساد؟ هنا محاججة صاحبنا: ‘في العالم العربي كان تصميم الإسلام على إنشاء حضارة تامة مكتملة أخلاقياً قد خلّف هامشاً محدوداً لتجذّر الشرعية السياسية العلمانية. وكانت النتيجة هي أنه، خارج المشيخات والملكيات التقليدية، برزت حاجة دائمة للجوء إلى إيديولوجية متطرفة، أو إلى نظام دكتاتوري برجنيفي عقيم على غرار حسني مبارك في مصر’. في المقابل، كانت موجات التجار العرب والفرس الذين جابوا البحار الشرقية بين شبه الجزيرة الهندية وجنوب شرق آسيا في القرون الوسطى، قبل فاسكو دا غاما، وانخرطوا في تجارة التوابل والقطن والأحجار الكريمة والمعادن، قد جعلت الإسلام مجرّد طبقة أخرى تُضاف إلى معمار ثقافي هندي وجاوي غنيّ ومعقد أصلاً. ولكن هنا تكمن المشكلة عند كابلان، إذْ انعتق الإسلام في شرقي آسيا، وصار ‘يشترك في الفضاء الأخلاقي مع تراثات أخرى، مما أتاح انتعاش العلمانية. أندونيسيا بلد يضمّ اكبر عدد من المسلمين في العالم، لكنّ البلد ليس دولة إسلامية’. فهل هذه فضيلة أم نائبة؟ كابلان يساجل بأنها، في كلّ حال، عقبة كأداء أمام توطيد القوّة الأمريكية في المنطقة، والعمل مع الإستبداد أيسر، أقلّ إشكالية، وأعلى مغنماً!
ليس نسق التفكير هذا طارئاً على تنظيرات كابلان، إذْ سبق له أن طرح ‘نظرية متكاملة’ حول معنى وجود المشرق التاريخي وشرق المتوسط تحديداً، فكتب على سبيل المثال: ‘البلدان الواقعة بين البحر الأبيض المتوسط وبلاد فارس لم يكن لها إلا القليل فقط من المعنى قبل القرن العشرين. فلسطين ولبنان وسورية والعراق لم تكن سوى تعبيرات جغرافية غامضة، وأمّا الأردن فلم يكن في الوارد أصلاً. وحين نزيل الخطوط الرسمية على الخريطة، فإننا سنجد رسماً عشوائياً بأصابع اليد لتكتلات سكانية سنّية وشيعية تتناقض مع الحدود الوطنية (…) وإذا كان في الشرق الأوسط جزء يتشابه على نحو مبهم مع يوغوسلافيا السابقة، فإن المنطقة من لبنان حتى إيران، حيث نواجه انحلال نظام الدولة الذي ظلّ، طيلة عقود، الحلّ الكفيل باضمحلال الإمبراطورية العثمانية’.
هذا اقتباس من مقالة بعنوان ‘تحريك التاريخ’، كان كابلان قد جزم في مستهلها بأنّ أيّ زعيم منذ نابليون بونابرت لم يعكّر صفو الشرق الأوسط كما فعل الرئيس الأمريكي جورج بوش (الابن، طبعاً)، واختتمها بتشجيع الأخير على المزيد من تهشيم النظام ما بعد ـ العثماني هذا، حيث لن تكون العواقب أشدّ كارثية ممّا جرى بعد تقويض الإمبراطورية السوفييتية. وليس دون فضيلة المصارحة، وإنْ تجرّدت من كلّ قيمة أخلاقية أو حتى نفاقية، أنّ كابلان هتك المسكوت عنه ـ كما يفعل اليوم، في الواقع ـ فلم يتردد في بلوغ الخلاصة التالية، بالحرف: ‘بدل الديمقراطية، خير لإدارة بوش أن تستقرّ على نوع من إدارة الحكم أياً كانت، ولنفكّرْ في خرائط العصور الوسطى حيث لم تكن هنالك حدود واضحة، بل مجرّد مناطق غير متمايزة في كردستان وبلاد الرافدين وسواهما، خاضعة للتأثير الفارسي’.
وللإيضاح، أو ربما لمزيد من تفصيل مشهد بدا في حدّ ذاته مكشوفاً مفصّلاً، توقف كابلان عند معيار انهيار البلقان التاريخي الذي تفكك، أو بالأحرى تَبَلْقَن، على مراحل عدّة لا بدّ أن تُختتم بانحلال ‘دويلات الباحة الداخلية’ مثل سورية والعراق، أو ‘سورية الكبرى’ ‘وبلاد الرافدين’ حسب تعبيره. كانت مخاطر العراق ما قبل الغزو الأمريكي تتمثل في استمرار دكتاتور مثل صدّام حسين على رأس ‘مجموعة رعاع من السنّة’، وتخيّلوا كيف ستكون الحال مع ارتفاع أسعار النفط وتحوّل النظام إلى قوّة إقليمية غنّية قوية، يحكمها ‘رعاع’ شيعة هذه المرّة، تساءل كابلان. سورية، من جانبها، سوف تراكم المزيد من الانقسامات الطائفية والإثنية، وستتفاقم أزمات نظامها الدكتاتوري، ويتسع نطاق الصحوة الدينية في صفوف أغلبيتها السنية، وستنقلب وسواها إلى عوامل شبه مستقرّة، معيقة لأيّ إصلاح ديمقراطي. ما الحلّ، إذاً؟ الغزو العسكري في العراق (كما فعلت إدارة بوش)، وأمّا سورية فإنّ كابلان يسكت عن الحلّ النظير العسكري، وكأنه استطراداً يستبطن التفكيك… إلى خرائط العصور الوسطى!
وقبيل انقضاء القرن العشرين، وربما من أجل إلقاء تحية وداع نبوئية على عقده الأخير، كان كابلان قد كتب دراسة مماثلة عن سلام الشرق الأوسط، استندت إلى سلسلة نبوءات واسعة الخيال، متحرّرة بالمطلق من أي وازع في استخدام حقّ التكهن السياسي. إنه اليوم يعيد إنتاج خطوطها الرئيسية دون تغيير يُذكر، وكأنّ عقدَين من عمر المنطقة والعالم ـ بعد 11/9، وغزو أفغانستان والعراق، وفوز حركة ‘حماس’ في أوّل انتخابات ديمقراطية فلسطينية حقّة، وحرب إسرائيل على لبنان وغزّة… ـ لم تكذّب أياً من تلك النبوءات، التي كان بينها التالية:
ـ سوف ينقرض الإستقرار الخادع الذي أشاعه تدخّل القوى العظمى في المنطقة، وسوف تندثر بساطة قطبي الصراع بين مجموعتين إثنيتين هما العرب واليهود. ومن جهة ثانية، سوف يمارس الإنفجار الديمغرافي العربي أعنف الضغوط على الهدوء الخادع، فتشهد المجتمعات العربية والاسلامية تغييرات جذرية لم يسبق لها مثيل منذ خمسة قرون.
ـ صحيح أن السلام سوف يجلب المشاريع والإستثمارات المشتركة، وتقاسم الثروات والمياه، والنموّ الاقتصادي، وكلّ ما في أحلام شمعون بيريس حول ‘شرق أوسط جديد’. ولكنّ ذلك كله لن يحرّر الجماهير العربية الغفيرة من وطأة الإنفجار الديمغرافي المقترن بتدهور الحياة السياسية والمؤسسات المدنية، وستحدث المعجزة المزدوجة التالية: أ) الفئات الاجتماعية العربية التي تحتل مراتب عليا في السلّم الطبقي سوف تقترب أكثر فأكثر من المواطن الإسرائيلي النموذجي المتوسط (الذي يتمتع برفاه اقتصادي متقدم على جيرانه)، وسيكون الإقتراب متباين المستويات، وسيشمل الميول السيكولوجية اليومية والثقافية والحضارية؛ وب) الفئات العربية الأفقر سوف تنأى أكثر فأكثر عن التحالف أعلاه، ولن تدور خطوط الإنقسام بين إسرائيل وهذا أو ذاك من الأنظمة العربية، بل بين الجماهير العربية الفقيرة في قطب أوّل، وإسرائيل مضافاً إليها الأنظمة العربية كافة في قطب ثانٍ مقابل.
ـ هاهنا يكرّر التاريخ أمثولة البلقان والبلقنة، وتبدأ الأحلام الإثنية القديمة في الإستيقاظ من سبات طويل، ثم تنقلب إلى مشاريع دويلات لا تفلح في تهدئة جنونها سوى نيران الحرب وأنهار الدماء.
فما الذي يقلق كابلان من هذا الشرق الأوسط، إذا كانت النبوءات تنتهي فيه إلى خراب ونيران وحروب ودماء؟ مصدر القلق الراهن، وحتى يكتشف صاحبنا منبع قلق إضافياً، هو ذلك التراث العتيق الذي أوصل المسلمين العرب إلى أصقاع شرق آسيا، فلم يكن تبشيراً بالعقيدة فحسب، بل اتخذ أيضاً مسالك تجارية برّية وبحرية، وأقام ثقافات راسخة لا تغيب مؤثراتها عن حاضر أمريكا ومستقبلها. ذلك هو باعث حديثه، برهبة وقلق، عن أمثولة فتى عُماني يُدعى سندباد، أبحر من البصرة وظلّ يمخر عباب البحار حتى بلغ الهند والسند وخليج البنغال والصين… مَنْ يدري، لعله يعود اليوم ليجوس مناطق النفوذ الأمريكية، ليس في إهاب شيخ البحّارة، بل متمنطقاً حزام شيخ الإرهاب!
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
خاص – صفحات سورية –
Eastern Islam and the ‘clash of civilizations’
Robert D. Kaplan
http://www.latimes.com/news/opinion/commentary/la-oe-kaplan-20101024,0,5970733.story