وَقفة وردّ غطاها..
فاضل الخطيب
يُحكى عن قبائل دينكا ونور السودانية أنها تقوم بقلع أحد الأسنان الأمامية لكلّ طفل بواسطة صنارة الصيد رغم أنه يُسبب ألماً كبيراً، ويُفسّر علماء الإنسانيات أنه يعود أصل هذه العادة إلى انتشار وباء مرض التيتانوس قديماً وعدم قدرة الأطفال على الأكل ولا حتى على فتح فمهم، لذا قاموا بخلع السن الأمامي لإدخال الحليب أو السوائل إلى فم الطفل للتغذية، وحتى بعد انقراض تلك الأمراض مازال سكان هذه القبائل على عادتهم من باب الاحتياط المسبق لاستقبال الوباء. ويعتبرون غياب السن الأمامي أنه مظهر جمالي، ووجود الأسنان بالكامل هو مظهر قباحة، ويُشبّهون من عنده أسنان كاملة بأنه مثل أكَلَة لحوم البشر، أو مثل أسنان الحمار، ويقولون بأنه يعجبهم مرور الهواء منه أثناء كلامهم و”سأسأتهم”! أي أنه صار ميزة جمالية إضافة لكونه عادة رغم انعدام حاجته من الناحية الطبية! إنه التبرير، ويجب أخذه بالحسبان سواء كانت قراراتنا واعية أو غير واعية، وكذلك عندما لا يكون هناك تفسير عقلاني لتمسكنا في طقوس معينة.
لماذا لا يضطلع الناس بالمسئولية، عندما يظهر أن كل شيء انهار أو على طريقه؟ لماذا لا يستطيع الناشط العام أو المسئول الاعتراف إذا أخطأ في عمله؟ لماذا لا يترك الأزواج مماحكاتهم الأبدية حول “من هو على حق”؟ لماذا نرى بوضوح المنافق، ولا نراه إذا كنّا “نحن” المنافقين؟ كلّ واحدٍ منّا يكذب؟ أم أنه فعلاً نعتقد بما نقول؟
لماذا نعتقد بأننا كنّا على حق وتصرفنا بوعي وعقلانية؟ لماذا لا نستطيع ترك خداع الذات رغم كل الحجج الدامغة، سواء كنّا سياسيين، باحثين، أطباء، محامين … أو أفراد عاديين؟ لماذا نعطي الأعذار والتبريرات على أخطائنا؟.
عند الكثير من الناس القدرة على الاعتقاد بأمورٍ يعرفون أنها غير حقيقية، وعندما يظهر جلياً خطأ ذلك بعد وقت، يحاولون وبكل صلافة برم الحقائق بحيث تثبت أنهم كانوا على موقف صواب. وهذه العملية يمكن تكرارها رغم أن الاعتقاد الخاطئ أولاً أو آخراً سيصطدم بالحقيقة في معترك الحياة.
قلائلٌ جداً الذين يكونون مسئولين عن قرارات خاطئة تمس حياة البشر ويملكون جرأة مواجهة الاعتراف بتلك الأخطاء، لا تستطيع الغالبية قول كلمة “ارتكبت خطأ”، وكلما كانت المخاطرة أكبر، من ناحية أخلاقية أو مادية، كلما كان الاعتراف أصعب.
عندما ظهرت فضيحة الرئيس كلينتون الجنسية مع موظفة البيت الأبيض مونيكا لوينسكي، قامت الدنيا ولم تقعد، قال صديقي المجري “إن ذلك سلوكٌ شائن…!” رغم أنه يقيم علاقة خارج حياته الزوجية!.
يعتقد علم النفس –على الأقل بعضه- أن محرّض عمل الإنسان هو العقاب والمكافأة. ولكون الإنسان كائن عاقل ويُفكّر لذا يُمكن اعتبار فكرة التنافر هي الشكل الاستعراضي لسلوك الإنسان، وهو بشكل عام يتخطى أو يتجاوز حدود العقاب والمكافأة، وغالباً يكون في تناقض معهما.
إن الكثير من البشر يحاول طيلة عمره إقناع نفسه وفهم أو شرح تناقضات أفكاره مع ما يُريح قناعاته المسبقة، وعلى ضوء ذلك يستخلص النتائج دائماً. أعتقد إن تشوّه التفكير يبدأ عندما يقوم الفرد بتحليل المعلومات الواردة إليه على أساس الانحياز المسبق، أي وكأنه يقوم بتشويه مسبق على أساس حُكمٍ مسبق، وقوة هذا التشويه تبقى حاضرة حتى لو لم يكن أي إثبات يُبرر ذلك الاعتقاد المشوّه، أي أن غياب الحجة هو أيضاً قوة للتشويه المُسبق.
إن ارتكاب أخطاء بين الفينة والأخرى، يُعطينا فرصة تقييم أعمالنا بمعقولية، هذه هي الحياة، وكأنها مبرمجة في داخلنا. إن الانحياز لجهة أو قضية ما، هو استعداد العقل لتصور وإدارة المعلومات على أساس فئوي أو على أساس الصورة النمطية.
كيف يمكن التأثير على إنسان صادق كي يُضيّع بوصلة الأخلاق؟ بأخذه للسير خطوة –خطوة والبقية يتكفل بها التبرير الذاتي! عند كل إنسان هناك بقع “عمياء”، وتكبر احتمالات التصحيح الذاتي إذا اقتنعنا أن تلك ليست خِدع ساحرة ولا نرى خلالها إلاّ صورة رغباتنا وآراءنا المشوّهة. أعتقد أنه نحتاج خلال حياتنا إلى عدد قليل من النقاد القادرين على إحداث ثقبٍ في برقع حماية التبرير الذاتي وإعادتنا إلى الواقعية إذا تجاهلناها أحياناً.
من خلال الذكريات الزائفة يمكن أن نغفر لأنفسنا ونبرر أخطاءنا، لكنه أحياناً يكون الثمن كبيراً: نصبح عاجزين عن تحمل المسئولية، عن الاعتراف بتشوّه ذاكرتنا، عن الإدراك بأن مشاعر الذكريات العميقة يمكن أن تكون خطأ، وهذا يُمكن أن يُحفّز الفرد كي يأخذ بجدية أكثر ذكرياته، وأنه ليس دائماً كل الذكريات دقيقة. ربما لا يكفي التمسك بالمقولة المُحببة والتي تعبر عن أن الزمن سيكون كفيلاً بإثبات صواب مواقفنا. إذا كانت التجربة تدحض الحدس أو التصوّر فإن الحدس يكون خاطئاً، إن المراقبة أو الرصد الجيّد يعني ماذا شاهدنا بالضبط وكيف نعرف أننا نملك مبرراً لذلك، المراقبة والحدس بدون تدقيق أكيد يعطي توجه أو مؤشر لاتجاه غير موثوق، وإذا لم يقم الفرد بتدارك وإصلاح ما يجب، فإن العلم سيقوم بذلك مع الزمن.
عند النزاع والخلاف لا يعترف أحداً، بأنه قام بالكذب أو السرقة أو النصب والاحتيال بدون أسباب، لأن ذلك لا يقوم به إلاّ الأشخاص السيئين. الطرف الآخر هو المذنب والمخطئ، وطبعاً أنا مثل أي إنسان أخلاقي عاقل ورزين، أنا فقط رددت على استفزازه وإهانته!.
أحياناً يكون مرتكب “الجريمة” أو السلوك الشائن مشغولاً بمحاولة إثبات تبريرات سبب سلوكه وعمله، وأحياناً لا يعرف حقيقة شعور الضحية، أي أنه سببّ جرحاً عميقاً لمشاعر الآخر. قد يكون بَرّر لنفسه شيخ ذلك الجامع تجارته بالبشر والدعارة القانونية –مثلاً تصدير بنات من أوربا لتسويقهم في بلدٍ عربي وإعادتهم بعد فترة مع أزواجهم الجدد، وبعدها الطلاق مشروع، وكل حركة وابتهال لها ثمنها النقدي ومبررها الأخلاقي والديني. أو الذي سرق ادخار أسرة لسنوات وهرب مع طفله ومصحفه فلابدّ أنه وجد المبررات، ولا ضير بإطعام صغيره من مال السرقة فهو صار حلالاً حسب تبريراته الفقهية، وعندما تظهر تبريرات منافسة مقابلة هل تصبح درساً يدحض تبريراته تلك؟ وهل تلك الابتهالات التبريرية ليست سوى مجرد رشوات للإله الذي يغفر كل شيء، ولابدّ أنه يُمهل ولا يُهمل! وهناك أمثلة عن مثقفين سوريين منحدرين من كلّ الأقليات والأكثريات ومنهم بعثيين أيضاً يدعمون نظام السلطان الوريث، واعتباره خيرٌ من البدائل الدينية الإقصائية عاشقة الموت والماضي، وبهذا يعطون المبرر “الأخلاقي” لوقفتهم مع النظام رغم قناعتهم بعدم شرعيته، واعترافهم بأن شخص الوريث هو إهانة لرجال وأرحام نساء سوريا! ونجد على الفيس بوك من يرفع مظلة “معارضته” واسم حركيّ للبعض وخطاب عنصري فيه “نصيرية، مجوسية.. إلخ.” ويبرر طائفيته ضمن فهمه “طائفية” النظام الإقصائية، ويلاقي تعاطف البعض والذي يجد مبرراته أيضاً! وأتخيل في باب أحدهم ناقة عائشة تُزبد وفي صدر بيت الآخر قميص عثمان يستصرخ! ومئات الملايين تُصدّق تبريرات غزوات السلف الأخلاقية التي كان سببها مثلاً صرخة أنثى غريبة في عمورية “وامعتصماه!”. لم يكن الصراع غالباً العين بالعين، أو السن بالسن، بل كان صراع العين بالسن! ودائماً هناك المبررات!.
هم بدأوا.. وقبلهم الآخرون بدأوا..إلخ. والسؤال: إلى متى يمكن الرجوع لإثبات أنهم هم الذين بدأوا أو الطرف الآخر؟ ذاكرة الضحايا تعمل لفترة طويلة جداً، وفي أي وقت يمكن استحضار وقائع حقيقية أو خيالية اعتقادية من التاريخ الحديث أو القديم. كي يمكن إشباع رغبة التبرير الثأري الانتقامي ومن هم الضحايا؟ الجواب يتعلق بعدد السنوات أو القرون التي نأخذها بالحسبان!.
إذا بدأ شخصٌ بطرح فكرة “مَن بدأ أولاً؟” سواء كانت القضية حول خلاف داخل الأسرة أو حول أزمة دولية كبيرة، عندها من الصعب ألاّ تكون وجهات نظره تتوافق مع المعلومات التي يَقبلها. وإذا كان هناك شخصٌ حدّد سلفاً من يكون الضحية ومن يكون مرتكب الجريمة لابد أن يكون حدّد تعاطفه مع الطرف الضعيف أو الضحية –هذا إذا لم يكن قد دُمّر بالكامل- عندما نحاول تثبيت وقائع أعمال “وحشية” فظيعة من جانب طرفٍ ما، لابد أن يظهر أحدهم ليقول: وماذا عن الأعمال الوحشية الفظيعة للطرف الآخر؟ طبعاً يكون مفهوماً أن الضحية يريد الثأر والرد، لكن الطرف الأول يريد أن يُخفف تأثير الأعمال التي قام بها ويحاول تصنع دور الضحية، وبهذا تبدأ عملية التداول الثأري بين الطرفين. غالباً، وربما كل ثورة ناجحة، تعود مع الزمن لتلبس ثوب المستبد الذي أطاحت به وكان يدعوها للاشمئزاز. المنتصرون –الضحايا سابقاً يشعرون بمبررات فعلتهم، ويُحرّفون الحقائق ويُشوّهون منطقها.
قال سقراط “كل إنسان فان، وسقراط إنسان، لذا سقراط فان”، هذا صحيح، لكنه حيث كل إنسان فان لا يمكن الاستنتاج من أنه كل فان إنسان وبالتالي أنه ليس كل إنسان سقراط! هكذا يُحاول البعض التمنطق سواء دينياً أو سياسياً، ويصبح هذا البعض مثل “الفواخري” يضع أذن جرّته أينما شاء!.
لقد كان مطلوب شجاعة نيلسون مانديلا الأسود وفريدريك دوكلارك الأبيض لصدّ وتجاوز حمّام الدم في جنوب أفريقيا -والذي غالباً يرافق أكثر الثورات، واستطاعا وضع الأسس التي ساعدت بلدهم بالانطلاق على طريق الديمقراطية.
ما هي الحكمة في تقدير الحكم الصحيح؟ لا يوجد أصعب من الاعتراف بالخطأ!
بدون نقاش وحوار وانتقاد لا توجد حكومة أو دولة يمكن أن تكون ناجحة، ولا يمكن لأي نظام أن يستطيع البقاء.
الناس بحاجة إلى منظمات وأجهزة شفافة، ومن المحبب أن يكون وجه الإنسان مفتوحاً على العالم، أن يكون منحازاً بشكل كامل للمجتمع الإنساني. إذا ارتكب صديقٌ خطيئة ما، ربما يُصبح الصديق “صديق”، وتبقى الخطيئة خطيئة! –إذا لم يقم بإصلاحها.
يغفر المريض أخطاء الطبيب إذا كانت تتعلق بألمٍ وصداع في الرأس، لكنه نادراً ما يحدث ذلك الغفران عند أخطاء علاج القلب!..
بودابست، 30 / 10 / 2010، فاضل الخطيب.
الحوار المتمدن