شعبوية في النخاع وليست فقط على الأبواب
عقل العويط
الشعبوية التي تومئ الى تأليه القطيعية وانهيار الديموقراطيات، هل تكون هي مستقبل العالم ونوع الحكم الذي ينتظره، بما هي أسلوب ديكتاتوري، ديماغوجي، غرائزي، تعبوي، جماهيري، انحطاطي، مسدود الأفق؟
سؤال من الأسئلة التي تشغلني وأنا أتأمل أشياء الحياة الملحّة، أنظر اليها من نافذة نهاية الأسبوع المطلّة على صفاء العقل والروح، وهي، مع الشعر والإقامة في منزل الرأس، هربي الوحيد من فظاظات الأمر الواقع وضوضائه وابتزازته الهائلة.
سبب هذا السؤال ليس فحسب النقاش الذي أثارته قبل أسبوعين منشورة “لو كورييه انترناسيونال” في شأن التحولات المقلقة للأوضاع السياسية والمجتمعية في كلٍّ من النمسا وأسوج وهولندا وبلجيكا، حيث أظهرت نتائج الاستطلاعات والانتخابات الأخيرة هناك أن الكثير من المواطنين باتوا مأخوذين بالأحزاب التي تزعم أنها تجسد صوت الشعب.
السبب الحقيقي أن هذه العلامة الداهمة في بعض أوروبا (أضيف فرنسا وإيطاليا)، ترتبط موضوعياً بعلامات ذات دلالة، هنا وهناك في أنحاء العالم. ذلك أن بعض أوروبا ليست هي وحدها “ساحة” هذه الشعبوية، بل هناك – ما شاء الله! – دول وشعوب وقادة كثر يقفون في القطيع الشعبوي الهائل، ابتداءً بـ”العالم الأول”، لتشتد هذه الظاهرة رسوخاً في بعض بلدان أميركا اللاتينية والآسيوية والأفريقية، وخصوصاً في العالم العربي والعالم الثالث، باعتبار أن بلداننا وأنظمتنا وزعماءنا وشعوبنا وأيقوناتنا وآلهتنا أولى بالمعروف، وهم خير من يمثل هذا النزوع الهائل نحو الشعبوية، التي من ثمارها الناضجة تأليه العماء وإلغاء دور العقل وسيطرة قانون الحزب الواحد، والإيديولوجيات الأحادية، القيامية، والديكتاتوريات الرهيبة.
هكذا أراني في نهاية هذا الأسبوع، أنظر الى العالم، فلا أكاد أرى إلاّ ما يستولي عليه استيلاءً، من علاماته تأجيج صراع الحضارات واستنفار مشاعر العداء والأحقاد والحروب والاقتتالات والغرائز والمصالح والفساد والعنف، على حساب أمل الإنسان في الحياة الكريمة. هذه كلّها عندي من إشارات الشعبوية، ومن علامات آخر الأزمنة.
أبعد من النقاش الذي تثيره “لو كورييه انترناسيونال”، أليست الشعبوية هي التي تتحكم بسياسات العالم، وأخلاقياته، وقيمه، وأولوياته، ومعاييره، وثقافاته، شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً؟
التعميم ليس محبوباً، لأنه يفضي الى استبداد مضاد، والى إلغاء الأفكار والاحتمالات الأخرى، كل الأفكار والاحتمالات الأخرى، مهما تكن متواضعة ومحدودة.
لكني أعتقد أن العالم اليوم هو، بنسبة أو بأخرى، رهين هذه الشعبوية التي تشدّ الرسن حول أعناق مصائرنا. وإذ أقول مصائرنا فأنا لا أقصد هنا فقط، إنما المصير الكوني العام الذي تخطو في اتجاهه الأزمنة الحديثة.
هي تتحكم بمصائرنا لأنها زبدة المأزق الذي يواجهه العالم، ليس في السياسة والأمن والاقتصاد فحسب، ولكن أيضاً في الثقافة، ثقافة العيش والتبادل والتصرف، وثقافة العقل والأدب والفن والفلسفة والفكر النقدي.
ما يعنيني من هذه المسألة، على المستوى المباشر، الى هموم السياسة والمصير، هو القلق الناجم عن استفحال شعبوية ثقافية، تتجلى أكثر ما تتجلى، في ثقافة الـ”فاست فود”، لكن اللغوية والأدبية والفنية.
هذا هو بيت القصيد. فأنا قلقٌ حيال مصير اللغة، باعتبارها قيمة خلاّقة، ذاتاً، وباعتبارها وسيطاً حياتياً وإنسانياً ومعرفياً وشعرياً وروائياً و… نصياً.
بوضوحٍ كابوسيّ: أنا قلقٌ حيال مصير الأدب. والفن.
فتحت سنابك الوسائط التكنولوجية الحديثة، وخصوصيتها الشعبوية، كم أشعر بأن لغة الأدب تنجرف انجرافاً كينونياً خطراً للغاية في خضمّ المعمعة التبادلية الاستهلاكية، حتى لتصير أشبه ما تكون بطعام الـ”فاست فود”. الشيء نفسه، لا بدّ أن يتجلى في اللغة الفنية. وفي المعيار النقدي، الذي يُرى الأدب والفن من خلاله.
أنظروا الى المدارس، الى الجامعات، الى الصحف، الى المجلات، الى التلفزيونات…، تعرفوا ماذا أقصد.
أنظروا الى اللغات المتبادلة على الانترنت والوسيط الخليوي، في العربية والفرنسية والإنكليزية، تعرفوا تماماً ماذا أقصد.
النتيجة: تبسيط، بل انهيار لغوي شامل.
سيسألني سائل: ما علاقة هذه الظاهرة بالمفهوم الشعبوي؟
العلاقة واضحة: علاقة الأسباب بالنتائج المباشرة وغير المباشرة المترتبة عليها.
فمع تراجع الجدية في إدارة الشأن العام، تتراجع الجدية في كل شيء، وينفلت الزنبرك القيمي والمعياري.
العقل في خطر. الديموقراطيات في خطر. حوار الحضارات في خطر. سلّم المعايير في خطر. فلماذا – موضوعياً – لا تكون اللغات والآداب والفنون في خطر؟!
وإذا كانت الشعبوية القطيعية هي البديل النوعي في أساليب الحكم، وفي علاقة السلطات بشعوبها، والعكس بالعكس، فلماذا لا تتسرب هذه الشعبوية الى عقر دار اللغات والآداب والفنون، فتقلب الطاولة، وتُرسي قيمها ومعاييرها “الجديدة”؟
هناك الزعيم الشعبوي، والرئيس الشعبوي، والقائد الشعبوي، والسياسي الشعبوي، ورجل الدين الشعبوي، والاقتصادي الشعبوي، فلِمَ لا: اللغوي الشعبوي، المعماري الشعبوي، البيئي الشعبوي، الأستاذ الشعبوي، الأديب الشعبوي، الفنان الشعبوي، الناقد الشعبوي، القارئ الشعبوي…؟!
فإذا كان ثمة إرهاب مضاف، فهو هذا الإرهاب بالذات. وأكادني أقول إنه أخطر أنواع الإرهاب المعنوية، لأنه يحصل بـ”التسرب” اليومي الدؤوب، الناعم، اللاإنتباهي، في قنوات العقل وتجلياته.
أعتقد أن خطر هذه المشكلة يتمثل في أنه لا يشكل تهديداً واضحاً وظاهراً. هو شأن السرطان، خطر خبيث، يفتك بالخلايا، رويداً رويداً، وبصمت، وبدون صخب ظاهر. لكنه عندما يستتب، يكون كل شيء قد صار في قعر الانحطاط والموت.
ألم أقل في البداية إن الشعبوية هي أسلوب انحطاطي في مفهوم العلاقة بين السلطة والشعب؟!
لا، ليست الديموقراطيات وحدها في خطر. هنا، أومئ الى الأخطار التي تتهدد اللغة، لغة العقل والادب والفن والطبيعة.
خافوا. أدعوكم الى الخوف. لأنها أخطار تتظاهر بأنها نائمة، لكنها، شأن السرطان، عندما تظهر، تكون قد فعلت فعلها. والسلام.
النهار الثقافي