مسـيحيــة تسـتعيــد وعيهــا
ميشيل كيلو
لأسباب تاريخية تتصل بنمط الدولة والسلطة، وبغياب الفرد بما هو ذات إنسانية تتعرف بحريتها، وبهيمنة التفاوت بين البشر، الذي استند إلى أيديولوجية رسمية دعمها فكر ديني رأى في العقيدة السماوية المحدد الوحيد والنهائي لحالة البشر الطبيعية، وبسبب تعين هوية الجماعات بأديانها (ثم بمــذاهبها الدنيا)، كان من الحتمي أن يكون انتماء أتباع دين ما إليه، انتســابا إلى هوية خاصة تتحدد بذاتها، وأكثر من ذلك باختلافها عن غيــرها. فهي مفارقة لكل ما عداها، لهذا لا تشكل مجتمعا موحدا مع غيرها من الهويات، إلا بدلالة السلطة والدولة، فأتباع الأديان المختلفة ليسوا جماعة موحدة، بل جماعات (بحسب وصف الياس مرقص) يعين كل واحدة منها بدرجة قطعية مذهبها الذي أبطل دينها الأصلي وحل محله.
ولأسباب ذاتية ترتبت على هذا الواقع التاريخي، حافظت الجماعات (التي حملت فيما بعد اسما حديثا هو أقليات) على طابعها المذهبي، الذي قوض دينها، بما هو طابع طائفي، يجوهر هوية تتعرف على نفسها – ودينها – من خلاله، بينما أسهمت، بالمقابل، في الإبقاء على وضعها الخاص والمغلق هذا رغبة بعض مؤسساتها الدينية في إبقاء «خرافها ضمن القطيع» التابع لها، فضلا عن عوامل أخرى، منها بروز مصالح فئوية طبقية وأعيانية، جعلت من المنتمين إلى الطائفة الخاصة «قاعدة سياسية ومذهبية شعبية». وكذلك توطدت طرق في النظر والعيش قلصت الزمني لحساب الديني. وأخيرا وليس آخرا تبني نمط من التعايش أبقى في «المجتمع» على الحواجز «المعنوية والمادية» بين الطوائف، وجــعل لكل منها شخصية «اعتبارية» تستوطن وعي ومشاعر أفرادهــا، من أيام نظام الملة، نظام تعريف الفرد بمذهبه، إلى زمن المجتمعات الراهنة، التي تعتبرها سلطتها السياسية الربانية «علمانية». وكان من نتائج هذا الاقتران بين الموضوعي (التاريخي) والذاتي (الراهن) أن ترسخ واقع كثيرا ما يتم إنكاره والتنكر له، يقوم على موقفين فاسدين:
– اعتبار الجماعة الذاتية، الطائفة، مهددة بخطر داهم ودائم هو الغرق في أغلبية ما، والإقصاء من عالم يهيمن غيرها عليه، فلا تجد ما تحافظ من خلاله على نفسها غير المزيد من الانكفاء على ذاتها المذهبية والمبالغة في التمايز عن الآخر، مع ما يتطلبه هذا من تعبئة نفسية ومادية تشحن علاقات الأفراد المنضوين في طوائف، وعلاقات الطوائف بما هي تكوينات مجتمعية متنافية، تبقيها قرب بعضها قبضة السلطة القوية، التي تتلاعب بتناقضاتها وتدمجها في حقلها السياسي بدل أن تفكر بإزالة ما بينها من تناقضات تتظاهر دوما في تتوتر مكتوم مرشح دوما للانفجار.
– قراءة التمايز الديني باعتباره تمايزا حضاريا، في نظرة تريد إخفاء التفاوت الطائفي وراء التفاوت الحضاري، التأخر والتعصب وراء التقدم، وتروج لحتمية الاختلاف ومن ثم الافتراق عن «جماعة الأغلبية»، المتأخرة حتما بسبب دينها، والتي لا تجد طريقة لدمج «الطائفة المتحضرة» في كيانها الأوسع غير نقل تأخرها إليها. يرى هذا أصحاب هذا الموقف هويتهم الحقيقية، الخفية، في نموذج حضاري مغاير للنموذج الأغلبي المحلي ،الذي يعيش في ظله وينتمي إليه بالتاريخ واللغــة والأرض… الخ، هـو النموذج الغربي، لذلك يظن عضو «الطائفة المتحضرة» نفسه منتــسبا إلى وطنين: وطن مشتهى يقع وراء البحار، وآخر مفروض وهش يعيش المرء فيه «بالوراثة»، هو في حقيقته وطن الأغلبية المتخلفة وليس وطنه. هكذا، تعيش الطائفة بجسدها في مجتمع قائم هنا، وتنتمي في خيالها ورغباتها إلى وطن يضم ملة دينية تعيش بأوهامها فيه، هناك.
هذا النمط من التفكك هو استمرار حديث ومتفاقم لنمط التفكك التاريخي التقليدي، وإن اختلف عنه في أشكاله نتيجة اختلاف علاقاته مع الدولة والسلطة، واختبأ وراء أشكال جديدة من التقوقع على الذات، واختلطت فيه المكونات الدينية بالأوهام الحضارية، وتداخل فيه الانتماء إلى هنا بالانتماء إلى هناك، ضمن حاضنة الطائفة كجماعة قائمة بذاتها تعيش أكثر فأكثر خارج جوامع التاريخ وتتعايش مع الأغلبية بقليل من التراضي وكثير من الإكراه، لها في الوقت نفسه حياة خاصة تقتـصر على مســتواها الذاتي الضيق، الذي يقع أكثر فأكثــر خارج علاقاتــها مع أبنــاء الأغلبية.
تفرض نفسها هنا ملاحظة تشرح بعض أوجه الواقع الراهن، تتعلق بفشل المجتمعات العربية في الانتقال، من خلال النهضتين الأولى والثانية: نهضة محمد علي باشا ونهضة جمال عبد الناصر، من نمط الدولة التقليدي، ومن بنية مجتمع يعرّف مكوناته بانتماءاتها المذهبية – الدينية، إلى نمط دولة حديث يقوم على المواطنة ويرى في المواطن ذاتا حرة وتتعين بحريتها، يتكون مجتمعها من مواطنين أحرار يتساوون في حريتهم ويتعرفون من خلالها وليس من خلال أي شيء آخر، مهما كانت أهميته في حياتهم. جدد القديم نفسه في حاضنة العصر الحديث، وأعاد التحديث إنتاج القديم في أشكال مطوره وطدته ورسخته بدلا من أن تقوضه وتزيله، وعبر القديم المحدث عن ذاته من خلال نظم لم تنجح في شيء غير تحديث طابع السلطة الإكراهي والمجتمع الاستبعادي/ الإقصائي، في حاضنة كونية مختلفة كل الاختلاف عن الحاضنة التي كانت قائمة إبان تشكل وتقدم الحضارة العربية/ الإسلامية، هي النظام الرأسمالي العالمي، الذي يملك قدرات تمكنه من دمج واحتواء واتباع البلدان والمجتمعات التقليدية، المتأخرة بالضرورة كبلداننا، ولديه وسائل وأدوات وخبرات مؤكدة الفاعلية في مجالات تحديث التخلف وتقدمه، علما بأن رهانه الرئيس قام خلال نصف القرن الماضي على تحديث السلطة أمنيا، لتتمكن من احتجاز أي تراكم تقدمي يحققه التطور الطبيعي على صعيدي الدولة والمجتمع، ومن إبقائهما أسيرتي علاقات خارجية تعزز باضطراد فارق تقدمه عليهما، في إطار سيرورة إنتاج كونــية تفــرض التقدم بلا حدود في أحد قطبيها (الرأسمالي) والتأخر بلا عوائق في قطبها الآخر (ومنه بلداننا).
بعد حقبة عابرة، بدا فيها أن اختراقا يحدث على صعيد الدولة والمجتمع وعلاقاتهما، وفي مجال المواطنة، تراجعت خلاله مكانة الطوائف ومعايير وجودها داخل المجتمع وفي نفوس المنتمين إليها، وقعت الانتكاسة، التي نعيشها منذ قرابة نصف قرن، والتي أخذ تحديث السلطة فيها شكل تحديث طاول أجهزة القمع والأمن والنهب – نهب الداخل – (كان ماركس يقول: إن للدولة الشرقية مهمات ثلاث: نهب الداخل، ونهب الخارج – عبر الحرب – وبناء المشاريع الكبرى. ماذا بقي منها غير وظيفتها الأولى؟!) لا عجب في أن الطوائف برزت، بما هي مكون رئيس من هذه التكوينات، من جديد كفاعل مؤثر في الشأن العام، وانخرطت في صراعات وصلت في مرات كثيرة إلى درجة الاقتتال بالسلاح، وأحكمت من جديد قبضتها على المنتمين إليها، وظهرت كحقيقة لا سبيل إلى تجاوزها، سواء بالتطور الطبيعي أم بالإرادة الجامعة الواعية. وزاد الأمور مأسوية أن الأغلبية لم تر في نفسها المجتمع والشعب، بل اعتبرت ذاتها مجرد طائفة غالبة تريد موقعا يجعل منها طائفة / دولة، أو دولة / طائفة لا فرق.
في أجواء مغمــورة طائفــيا، ماذا يمكن أن تكون خيارات المسيحيين؟ أعتقد أن الرد على هذا الســؤال يجب أن يذهب إلى عمق المسائل، إذا كان يريد إحداث فارق في وجــود المسيحــيين كبشر وكأفراد، وكمواطنين في دول، وكأتــباع ديانــة ســماوية مؤمنين، تنسجم مستويات وجودهم الثلاثة هذه، ولا تتنافر أو تتناقض.
– يجب أن يكون للمسيحي وطن واحد نهائي هو الوطن العربي عامة والبلد العربي الذي يعيش فيه خاصة. وعليه تبنى قضايا ومشكلات وطنه باعتبارها قضاياه المصيرية، التي يتوقف عليها وجوده كإنسان وكمواطن وكمؤمن، فهو يعادي من يعاديه ويصادق من يصادقه ويموت ويعيش في سبيله. ليس المسيحي ضيفا في بلاده وليس أجيرا عند سلطتها أو سواها، ولا منة له في الانتماء إلى تاريخه وشعبه، لأنه إنسان في مجتمع ومواطن في دولة له عليها حقوق من الضروري أن يناضل في سبيلها، ولها عليه واجبات تحتم قيامه بدور يليق بانتمائه إليها، يتخطى السلطة وعلاقاته معها، كي يبلغ صعيد المواطنة العميق والحقيقي، الطبيعي وما بعد السياسي: مستوى التعاقد بينه كفرد في مجتمع وبين دولة يتجاوز وجودها أية سلطة عابرة أو طارئة أو قائمة.
– وعلى المسيحي أن يرى في نفسه فردا في مجتمعه، تتعين هويته بانتمائه إليه كجامعة ينتسب إليها مع بقية مواطنيه، ولا تتعين بانتسابه إلى أي تكوين جزئي من تكويناته، طائفة كان أم حزبا أم طبقة أم قبيلة… الخ، كما لا يتعين كذلك من خلال طريقة في فهم الدين تجعل منه فردا خاصا في طائفة مغلقة، علاقته بغير المنتمين إليها علاقة تحاجز متبادل لا علاقة تدامج وتفاعل. للمسيحي أن يكون على صعيده الذاتي «صاحب دين» يعبر بواسطته عن علاقته الفردية والشخصية مع خالقه، لكنه في مستواه العام مواطن في دولة وفرد في مجتمع، تحدد مواطنته هويته ومواقفه والتزاماته، ومثلها انتماؤه إلى مجتــمعه العــربي / الإسلامي / المسيحي… الخ. يغلط المسيحي كثيرا بحق نفسه إذا لم ير إيمانه بدلالة إنسانيته أولا، ثم مواطنيته ومجتمعيته، أو إذا رأى هذين بدلالة إيمانه، واعتبر نفسه بالتالي عضوا في أخوية خاصة تجبره ظروفه على الانتماء إلى مجتمع لا يشبهه، وفوت على فسه فرصة رؤية ذاته كفرد في مجتمع يثريه بانتمــائه إلى دين تشوهــه الطائفية وتحط من روحانيته وحمولته الإلهــية والإنسانيــة، هو دينه كفرد خاص وليس برنامجا سياسيا يلزمه بهوية قــدرية، لا مخرج له منها، وبعلاقات عدائية مع الآخرين، ويميزه عنهم أو يضعه في مواجهتهم.
– وعلى المسيحي أن يرى نفسه بدلالة الحرية عامة وحريته خاصة، فالحرية مشترك يجمع بينه وبين مواطنيه، بغض النظر عن مذاهبهم، ويتساوى فيه معهم. يقترف المسيحي خطأ جسيما إن رأى نفسه بدلالة مذهبه ودينه كعامل يحدد هويته ويعرفه، وحده أو بصورة رئيسة. ثمة هنا حاجة حقيقية إلى انقلاب في الرؤية يبدل أولوياتها، قد يصدم من يطالب بإنجازه، لكنه يتيح وحده للمسيحي التحول من سجين في أقفاص المذهبية والطوائف إلى مواطن حر يستطيع لعب دور هائل الأهمية في توحيد مجتمعه ونقله من واقع تقليدي محدث أمنيا، قائم بدرجات متفاوتة في ديار العرب، إلى واقع بديل يوقف الأمور على أقدامها بدلا من أن تظل واقفة على رأسها، هو فيه مواطن دولة تخص جميع مواطنيها، يحملها مجتمع مدني، موحد ومتنوع، يتيح له التقدم والمساواة والعدالة حتى على الصعيد الديني، ينمي حريته ويحترم إيمانه , ويمكنه من تحويل اختلافه الشخصي عن الآخرين إلى تكامل يثري حياته المادية والروحية، دون أن يعزله عنهم، أو يقيم هوة بينه وبينهم.
أخيرا: مثلما لعب مسيحيون دورا رائدا في النهضة العربية الأولى وبعدها، يجب أن يلعب مسيحيو اليوم دورا رائدا وخاصا في إنتاج نهضة جديدة، يكونون فيها طلائع فكرية وحملة تاريخيين لحداثة مجتمعية، روحية ومادية، ولتغيير سياسي يرتقي بهم عبر ترقية مجتمعهم، يتقدمون من خلاله وبفضله على دروب يشقونها مع بقية مواطنيهم، لإيمانهم بأن تقدمهم محال إن بقي مجتمعهم متأخرا، وأن عزلتهم عن مواطنيهم وغربتهم عنهم حالتان قاتلتان، وليستا اليوم، كما لم تكونا بالأمس، حلا لمشكلاتهم، النابعة بالدرجة الأولى من مشكلات مجتمعهم ودولتهم، السياسية والثقافية والبنيوية، وليس من علاقات خاصة بهم ترتبت على انتمائهم الديني المختلف، كما قد يتوهم قسم كبير منهم.
ليست مشكلات المسيحي مع مجتمعه ابنة اختلافه الديني عنه. إنها وليدة أزمة تاريخية يعيشها مجتمعه العربي/ الإسلامي، تثقل كواهل المنتمين إليه على اختلاف عقائدهم وأديانهم، فلا حل لها إلا بموقف يبادر إلى التوافق مع الآخرين على أرضية الاندماج فيهم تحت سماء المواطنة، التي تجعل مشكلاته ومشكلاته واحدة ومشتركة، بينما يورطه انغلاقه ودورانه في حلقة الخصوصية المقفلة في توترات وصراعات لا يخرج أحد منها رابحا، أو محافظا على نفسه، كما أكدت تجارب حديثة وراهنة.
يعيش الوطن العربي حقبة تحولية تسعى فيها السلطة التقليدية المحدثة إلى إجهاض بوادر نهضة ثالثة ترتسم ملامحها الأولى على صعيد الفكر والثقافة، يستعيد العرب فيها مسائل نهضتيهم الأولى والثانية، من منظور أكثر عمــقا ونضجا، فتتحاشى أخطاء النهضتين السابقتين وتكون بداية خروج العرب من احتجاز تاريخي، انهياري وقاتل. هنا، يوجد ثمة خيارات ثلاثة أمام المسيحية العربية:
– إما أن تنخرط في العمل من أجل هذه النهضة، فتسهم في تجديد وتحديث مجتمعها العربي، وفي تخطي تكويناته ما قبل المجتمعية، التي مكنت السلطات من الانقضاض على شعوبها، فتكون ريادتها في النهضة سبيلها إلى المجتمعية والحرية.
– إما أن تبقى أسيرة وضع يستحيل أن تجد فيه نجاتها، هو تكبسنها على ذاتها طائفة تتضاءل جوامعها مع مجتمعها، وعوامل تقدمها في إطاره، باعتبارها جزءا منه.
– إما أن تهاجر إلى «هناك»، فيخلو موطن المسيحية الأول من أتباعها.
لا خيار غير الطريق الأول، النهوض بالمجتمع العربي/ الإسلامي باعتباره مجتمع مواطنين أحرار، مجتمعا مدنيا مفتوحا ومتنوعا وموحدا، وطريق العرب الموحدين والمتقدمين، الذين يرون أنفسهم ويعيدون إنتاج وجودهم بدلالة الحرية وحدها. بغير هذا الطريق، الذي يجب أن تسلكه جميع الطوائف بل استثناء، لن يبقى لنا غير قراءة الفاتحة على ارواح المسيحيين والمسلمين!
السفير