خطوط صغيرة في دفتر الغياب
جمعة بوكليب
ليلة أصيب الجنرال
كنت عائدا وحيدا في طريقي الي البيت في بورستر بارك، في ساعة متأخرة من الليل، ذات ليلة صيفية شديدة الرطوبة. كان الشارع خاليا ولا صوت في خواء وحشة صمته سوي وقع قدميّ علي الرصيف، ولكي ابدد من وحشتي بدأت ادندن بيني وبيني بلحن قديم جداً كانت تغنيه المرحومة صليحة يحكي قصة بخنوق بنت المحاميد عيشة . ظللت اسير وحيدا منخطف القلب بجمال اللحن الذي كنت احسه ينبثق كالنبع في داخلي صافيا ورقراقا وعفيا ويطير بي بلا جناحين عاليا مخترقا وحشة صمت وخواء الشوارع حينما سمعت صوتاً فظاً خشناً يمزق بحدة وفظاظة رخاوة الصمت والليل من حولي ويأمرني بالوقوف. فتسمرت في مكاني مرتعب الفرائص والجوانح، وفي داخل قفصي الصدري احسست بقلبي يلهث كجرو من شدة الخوف. قال الصـــــــــــوت آمراً: قف في وضع انتباه ايها الجندي . رددت بصوت خائف مؤكداً علي انني لن اتحرك. رأيت جسدا نحيلا ضامرا يظهر من زاوية ما في الشارع ثم يتجه نحوي في خطوة عسكرية صارمة، وحينما اقترب مني وصار في مقدوري تبين ملامحه رأيت رجلا عجوزا مرتديا بزة عسكرية مزدانة بالنياشين والاوسمة ومعتمرا قبعة بيريه سوداء ويحمل تحت ابط ذراعه اليسري عصا الشرف، ولولا علمي ومعرفتي ان المارشال مونتغمري قائد الجيش الثامن قد شبع موتا في قبره لكنت ظننته هو. وقفت متسمرا في مكاني وانا ارصد عينيه وهما تحدقان في وجهي بقسوة وصرامة. قال لي: لماذا لم تؤد التحية العـــــــــــسكرية لجنرالك؟ حينما سمعت ذلك عرفت انني وقعت برجليّ في شرك غير متوقع نصبته لي الاقدار، وعرفت ايضاً ان كوكبنا الارضي كان وسيظل دوما مرتعاً خصباً للجنون والمجانين وموطناً للغرابة. اخترت الدخول في اللعبة وقلت للجنرال بصـــــــــوت حاولت ان يكون جاداً عفوا سيدي الجنرال لكني لم ارك . ابتسم الجنرال ابتسامة رضي وارتياح لاعترافي بمكانته، ثم سألني بصوت اكثر تسامحا عن سبب تأخري عن لقائه. قلت له ان السبب في ذلك يعود لتأخر القطار. نظر إلي نظرة غير المصدق ثم قال من الآن فصاعدا ستلزم جانبي ولا تتحرك الا بإذني. تظاهرت بالســــــــكوت ثم قلت كمن استدرك شيئاً ولكن سيدي الجنرال لا بد لي من ايصال رسالة شفوية مستعجلة الي سيدي المارشال . اشتعلت عيناه بالفضول لدي سماعه لكلمة مارشال، ثم سألني بلهجة صارمة: ماذا قلت؟ رددت علي مسامعه ما قلت الا انه ظل صامتا مفكرا، وكنت في كل لحظة اتوقع منه سؤالي عن اسم المارشال الا انه لم يفعل مما خيّب ظني. نظـــــــــر في عينيّ بعينين مجنونتين صقريتين وقال: سنذهب معا . فاجأني رده، ثم اصدر لي أمراً بالتحرك فارتبكت ولزمت مكاني فأعاد الامر مجددا ولم يكن امامي سوي التحرك للامام فلحقني هو ثم أمرني بالتوقف فتوقفت وانا احس بصدري يتقد كمرجل من شدة الغضب، ومدركا ان ما في قلبي من صبر قد اوشك علي النفاد. قال لي بصوت فظ: الا تعرف ان علي الجندي السير خلف جنراله وليس العكس؟ هززت رأسي بالايجاب ، فتقدم بخطوات عسكرية امامي ثم اصدر بصوت عال وصارم امراً بالتحرك الي الامام فتحرك هو اولا وتبعته. كان يمشي مشية عسكرية واضعا عصا الشرف تحت ابط يده اليسري ويسير في خط مستقيم فانتابتني نوبة ضحك هستيري واتكأت علي جدار بيت قريب وبدأت امسح الدمع الذي ملأ عينيّ. توقف الجنرال ثم استدار إليّ بوجه يتقد غضباً، الا انني لم استطع التحكم في نوبة الضحك التي انتابتني. قال لي بصوت صارم: هل ثمة ما يضحك كي اشاركك الضحك ايها الجندي؟ توقفت عن الضحك كلية، وقررت وقف المهزلة. سيطرت علي نفسي وقلت له بصوت جاد: اذا اردت ان تكون دون كيشوت آخر فهذا شأنك يا سيدي لكني ارفض ان امثل دور التابع سانشو بانسا. والان من فضلك دعني اذهب لحالي. تصبح علي خير . وتحركت في طريقي بخطي سريعة فلحقني جريا الا انني واصلت خطوي السريع متجاهلا إياه فلحق بي وامسكني من ذراعي اليسري بقوة فما كان مني سوي الالتفات ودفعه بيدي الاثنتين في صدره دفعة قوية فهوي من طوله بظهره علي الرصيف صارخا متوجعا من شدة الالم . امسك رأسه بين يديه وصرخ قائلا انه ينزف دماً. اشهد اني خفت وارتبكت واسرعت مرتجفا لمساعدته علي النهوض والجلوس علي الارض مرددا أسفي واعتذاري لما حدث عن غير قصد. كان الدم ينزف بغزارة من رأسه ملطخا البزة العسكرية، ولم يكن امامي من حل سوي سحب هاتفي المحمول وطلب الاسعاف السريع. ظللت اواصل مساعدته محاولا ايقاف النزيف الا انه كان يدفعني بيده رافضا مساعدتي حتي وصلت سيارة الاسعاف السريع وبدأ ممرض وممرضة محاولة تضميد الجرح. وحين تمت السيطرة علي النزيف ولأم الجرح وعصب الرأس بالضمادات سألتني الممرضة عما حدث فسردت عليها القصة من الالف الي الياء سريعاً وكان الجنرال يسمع كل كلمة اقولها وحين انتهيت قال ان المعلومات التي قدمتها خاطئة وان سبب الاصابة الحقيقية هو اصابته بشظية من قذيفة هاون اطلقها العدو! هممت بالرد مصححا ومؤكدا علي صحة روايتي للاحداث الا انه غمز لي بعينه اليمني غمزة شيطانية ماكرة ألزمتني الصمت ثم قال لفريق التمريض بصوت آمر: ماذا تنتظرون الان؟ قل للسائق ان يطفئ مصابيح السيارة، ولنتحرك جميعا بسرعة قبل ان نصاب بقذيفة اخري او يداهمنا افراد العدو.
كاتب من ليبيا يقيم في لندن