انتخابات تصحيحية
ميشيل كيلو
إذا كان صحيحاً ما قلته في مقالة سابقة نشرت في “الخليج”، وملخصه أن أوباما تعثر لسببين: أولهما أنه لا يشبه أمريكا، بل هو أكثر تقدمية وإنسانية منها . وثانيهما أن برنامجه وشخصه لا يتفقان مع خياراتها، في الصعيدين التكتيكي والعام . وإذا كان صحيحاً ما تم استخلاصه في تلك المقالة حول تبلور رأي عام واسع يعتبر أوباما رجل تراجعات وتنازلات لا مسوغ لها تضر بأمريكا، فإن نتائج انتخابات الكونغرس ومجلس الشيوخ، التي جاءت لصالح الحزب الجمهوري المعارض للرئيس، يجب أن تعتبر ليس فقط إعلان قطيعة معه، بل كذلك نهاية حكومته الأصلية وبداية حكومة أخرى، ستختلط فيها إرادته وخياراته المتراجعة بإرادة وخيارات أمريكا الحقيقية، اليمينية والمذهبية والمتعصبة دينياً وعرقياً والإمبريالية الراغبة في استئناف هجومها على بقية العالم، بما يؤكد الحديث عن دخول الولايات المتحدة إلى طور انتقالي سيكون من الصعب كثيراً على أوباما إنهاؤه لصالحه، أو الخروج رابحاً منه، رغم ما سيقدمه فيه من تنازلات هي في نظر اليمين الجمهوري دلالة قاطعة على إفلاس أي نهج سياسي آخر، غير الذي اختطه لأمريكا وللعالم .
سددت الانتخابات لكمة حقيقية إلى أوباما، بدا بعدها كمن يترنح ويفقد توازنه، بالنظر إلى أنها أصابت، أو هددت بإصابة، جميع أوجه سياسته الداخلية: من قوانين التأمين الصحي، التي تعتبر إنجازه الرئيس في الداخل، إلى سياساته في مواجهة الأزمة الاقتصادية، التي تبين أنها لم تنته، وأن علاجها سيتطلب وقتاً أطول بكثير من الوقت الذي كرسه له خلال العامين الماضيين، وكذلك جميع نقاط سياساته الخارجية، التي يريد الجمهوريون تعديلها بحيث يتم التوقف عن سحب الجيش الأمريكي من العراق نهاية العام القادم، وتدخل واشنطن في مفاوضات جديدة مع حكومة العراق حول تعديل الاتفاق الأمني بينهما، بما يضمن سماحها ببقاء قوات الاحتلال لفترة غير محددة هناك، على أن تنخرط أمريكا بقوة أكبر في حرب أفغانستان، بدل أن تبدأ الانسحاب العسكري منها أواسط العام المقبل، كما وعد أوباما، وتعطي الأولوية لهاتين القضيتين على حساب القضية الفلسطينية والصراع العربي “الإسرائيلي”، ويحدث كذلك تبدل في الموقف من إيران يحل لغة التهديد والوعيد محل نوايا الحوار، والقنابل محل العقوبات، والحرب، في نهاية الأمر، محل السلام، ضمن سعي يستهدف تغيير النظام الإقليمي برمته، كي لا يستمر أحد في العمل لإخراجها من المنطقة، أو ضعضعة مواقعها فيها، ولا تبقى على حال التأرجح الراهنة، في وضع غير محسوم، يضمر إمكانية التحول لغير صالحها .
باختصار: يريد الجمهوريون انقلاباً في سياسات أمريكا، يقوم على التمسك بالمواقع التي تم احتلاها خلال رئاسة جورج بوش الابن، ورد الاعتبار للقوة العسكرية بوصفها وسيلة رئيسة في سياسات واشنطن الخارجية، مع ما يعنيه ذلك من تغيير في مواقفها من البلدان العربية ومشكلاتها، ومن جوارها، وكذلك من احتمالات فائقة الخطورة على أمن وسلام منطقتنا، تضعها بين حجري رحى أحدهما دولي والثاني إقليمي، بينما يحول وضعها الصعب وضعفها الحاليين بينها وبين المحافظة على مصالحها، ولعب دور فاعل في تقرير مواقف الآخرين منها .
ثمة كتابات كثيرة حول التطور المحتمل، الذي سيعتمده أوباما خلال العامين الباقيين من رئاسته الحالية، يشير بعضها بصورة خاصة إلى مواقف إدارته من الأزمة الأخيرة في لبنان، وما رافقها من إيحاءات مبطنة وصريحة بالعودة إلى نهج جورج بوش القديم في التعامل مع أطرافها المختلفة، وخاصة منها الطرف السوري، الذي توجد دلائل وإشارات إلى أن أمريكا قد توقف سياسات الحوار معه وتستأنف الضغط عليه لتغيير مواقفه من حزب الله وحماس وإيران، بطريقة تعيد إلى الأذهان سياسات سابقة كانت قد وضعت سوريا أمام أحد خيارين: إما تغيير سياساتها والاستجابة لمطالب أمريكا أو العزل والعقوبات . ومع أن أحداً لا يستطيع بعد معرفة الاتجاه الذي ستأخذه التطورات، فإن هناك ميلاً يكاد يكون عاماً إلى قبول رأي يؤكد أن أجواء التوتر ستتصاعد من جديد في المنطقة العربية خاصة، وفي العلاقات الدولية عامة، بينما سيتضح أكثر فأكثر تبلور خطين يحملان عناصر تصادم قوية يتطلع كل واحد منهما إلى إلحاق الهزيمة بالآخر، سيتقرر في ضوء صراعهما نمط النظام الإقليمي الذي سيقوم عندنا، وهل سيكون نظاماً معادياً للغرب عامة وأمريكا و”إسرائيل” خاصة، أم أنه سيخلو مما يسمى اليوم قوى الممانعة والمقاومة، التي يرجح بصورة متزايدة أن يفتح صراع الغرب ضدها أبواب منطقتنا على مصراعيها أمام الحرب .
في أجواء الاحتقان والصراعات الضارية هنا، وفي ظل صعود اليمين الأمريكي المدجج بالمذهبية والعنصرية والرغبة في التوسع والسلاح هناك، ينتظر أن تذهب منطقتنا العربية إلى حقبة توتر وصراع جديدين، سيزيد نيرانها تأججاً ما يفعله العدو “الإسرائيلي” لتسريع التهام فلسطين ولمنع حل مشكلتها، وما تعاني منه بلداننا العربية من انقسام يدفعها إلى الانخراط في معسكرين متناحرين ليس لنا أي نفوذ على قراراتهما، مع أنها قد تجرنا في أي وقت إلى ميدان عراك وقتال لسنا نحن من قرر الانخراط فيه، ولا ناقة لنا فيه ولا جمل، موضوعه تغليب مصالح غيرنا بعضها على بعض، فلن نخرج منه رابحين، مع أننا سنكون الطرف الذي سيدفع الثمن الأكبر لنشوبه، ما دام سيدور أساساً فوق أرضنا، وفي سمائنا وأجوائنا، وسيغطي رقعة العرب الجغرافية بكاملها، أقله في المشرق: بين البحر الأبيض المتوسط وحدود أفغانستان .
قال أوباما بعد إعلان نتائج انتخابات الكونغرس، حيث مني وحزبه بهزيمة ثقيلة: إن أمريكا لا تستطيع البقاء في حالة شلل إداري وسياسي للعامين القادمين . هذا القول يعني أحد أمرين: إما أن الرئيس الأمريكي سيسير آلة السياسة بالتفاهم مع الجمهوريين المنتصرين، عبر تنازلات يقدمها لهم وحلول وسط يتوصل إليها بمعونتهم، أو أنه سيعيد النظر في سياساته بحيث تكون مقبولة منهم . في الحالتين: لن يبقى أوباما الرئيس الذي مارس خلال العامين الماضيين سياسات تفاهم مع الدول الكبرى، ومد يد المصالحة والحوار إلى الدول المتوسطة والصغرى، وعمل على حل مشكلات مستعصية دأبت أمريكا على التلاعب فيها، وفي مقدمها القضية الفلسطينية والصراع العربي “الإسرائيلي” . وفي الحالتين، علينا أن نكون مستعدين لأسوأ الاحتمالات، وللتعامل مع واقع أمريكي مختلف، حاول أوباما تغيير جوانب منه، فسقط بين مسنناته، ويبدو أنه أفقده خلال ذلك جزءاً كبير من القدرة التي خال أنها ستمكنه من تغييره أو مقاومته .
الخليج