محاولة لفهم الأحداث الجارية.. اسرائيل تواجه حزب الله بحرب اهلية لبنانية
مازن كم الماز
1 ـ إن تعقد الأزمة داخل النخبة السياسية العراقية، وبشكل خاص داخل النخبة السياسية اللبنانية، والمبادرة السعودية التي استهدفت الأولى تؤشر الى رغبة أكثر من لاعب محلي وإقليمي ودولي في إيصال الوضع المتأزم الحالي إلى عنق الزجاجة.
2 ـ لا يعني هذا بالضرورة أن هناك قرارا بشن هجوم جبهي مباشر على الخصوم الإقليميين أو المحليين، بل ربما يكون هذا مؤشرا الى الرغبة في كسر حالة الجمود والمراوحة ودخول مرحلة من كسر العظم، للحصول على مكاسب سريعة وجدية في ظل ضغوط مختلفة تتعرض لها هذه الأطراف، رغم أن هذا يترك الباب واسعا أمام احتمالات حرب مفتوحة شاملة.
3 ـ طالما كان نشوب حرب أهلية لبنانية مطلبا إسرائيليا، كان هذا هو التكتيك الذي لجأت إليه إسرائيل في الماضي ضد خصمها السابق، منظمة التحرير الفلسطينية، وهو بالتأكيد خيار أساسي مطروح في مواجهتها مع خصمها الحالي: حزب الله، بغرض استنزافه وحتى التحضير لهزيمته النهائية. يجب ألا ننسى أنه على الرغم من تمكن حزب الله من الصمود عسكريا في حرب تموز/ يوليو 2006، لكنه بسبب وجود خصمه السياسي داخليا على رأس الحكومة القائمة يومها فإنه قد خسر سياسيا تلك الحرب.
إن خوض إسرائيل لمواجهة جديدة مفتوحة مع حزب الله لا يحمل أية ضمانات لنصر حاسم من دون خسائر مؤثرة على الأقل، ويبقى تكتيك ضرب حزب الله بتوريطه في حرب أهلية داخلية مغريا جدا بالنسبة لإسرائيل.
4 ـ القوى التي تمثل المارونية السياسية أيضا تعتبر أنها في وضع انتقالي. من الغباء الاعتقاد أنها قد أقرت بهزيمتها في الطائف، وهي على الأرجح تتبع تكتيكا سياسيا حذرا يهدف إلى الخلاص أولا من خصهما الأقوى، حزب الله، في سياق انتصار شامل للمشروع الأمريكي في المنطقة، الذي سيعني انتصارا حاسما لها أيضا في الداخل اللبناني كما تعتقد. وهي بعد أن سحبت عمليا دعمها لموقع رئيس الجمهورية، الذي لم يعد منذ تسوية الطائف يمثل المارونية السياسية، التي كان أمين الجميل آخر ممثليها في بعبدا، أصبحت تركز على التحالف مع خصوم النظام السوري أولا ومن ثم حزب الله. إن خطابها التصعيدي ينم عن استعدادها لحرب أهلية مفتوحة، بل ورغبتها في نشوب مثل هذه الحرب لاستعادة مواقعها في النظام السياسي وفي النظام ككل، خاصة بعد أن أثبتت مواجهات أيار/مايو ما قبل التسوية الأخيرة محدودية إمكانيات تيار المستقبل في مواجهات كهذه وصعوبة استفادته من تبنيه غير المباشر للأصولية النامية في الشمال والبقاع، لدرجة استخدام هذه القوى الأصولية في مواجهة علنية مع حزب الله بسبب موقف النظام الرأسمالي العالمي والعربي الرسمي من هذه القوى الأصولية، مع العلم أن التجييش الطائفي الضروري للمواجهة، أو تغطية المواجهة، مع إيران وحزب الله، مستحيل من دون هذه القوى الأصولية (طالما اشتكى إعلام الأنظمة العربية المعتدلة من ضعف تأثيره على الشارع، حتى عندما يستخدم خطابا شعبويا طائفيا مثلا، بل إنه استخدم هذا الرفض الشعبي لطروحاته على أنه إشارة على تميزه وتقدمه على الجماهير نفسها)، كما أن تاريخ العلاقة مع هذه القوى يحمل الكثير من المخاطر على حلفاء هذه القوى الأصولية المؤقتين، خاصة المتعاونين مع أمريكا والغرب الرأسمالي.
5 ـ إن ما يسمى بالحوار الوطني الذي يرعاه حاليا رئيس الجمهورية اللبنانية ليس جديدا، وليس جديدا أيضا ذلك الجدال حول الدولة والمقاومة، إنه نسخة كربونية عن ذات الجدل الذي دار يوم كانت المقاومة الفلسطينية موجودة في لبنان، قبل الحرب الأهلية، وبذات المواقف المطروحة اليوم تقريبا.
6 ـ لا يعني هذا أيضا رغبة حزب الله نفسه في المواجهة، ولا النظامين السوري والإيراني. الحقيقة أن الدافع إلى هذه المواجهة من جانب حزب الله هو دفاعي بحت قبل أن يصبح تحت مرمى النار بالفعل، أما النظام السوري فمن المستبعد أن يكون راغبا بتعكير الهدوء، وإن كان هدوءا فاترا، في علاقته بواشنطن بعد فترة الضغوط الهائلة التي تعرض لها في ولاية بوش الابن الأولى. أبعد من ذلك، تدل المؤشرات الى أن النظام السوري لن يدخل في مواجهة مباشرة مع أمريكا أو إسرائيل حتى لو تطورت مثل هذه المواجهة مع إيران مثلا أو حزب الله، إلا إذا شعر بتهديد وجودي مباشر، مع إحساسه بأنه لن يكون قادرا على الحصول على تسوية مع أمريكا وإسرائيل تضمن استمراره. لقد تعرضت أنظمة الاعتدال العربي نفسها، بما في ذلك الخليجية التي تبدو أقرب إلى أمريكا وأكثر منعة على مثل هذه الضغوط، والنظام المصري أيضا، باستثناء النظام الأردني الذي يبدو أنه قد حقق المعادلة الصعبة لإرضاء أمريكا وإسرائيل، لضغوط هائلة تطلب الأمر الكثير من الجهد والتنازلات لتهدئتها. بالنتيجة فإن النظام السوري يعي جيدا أنه بحاجة ماسة حتى اليوم للغطاء الذي يقدمه تحالفه مع النظام الإيراني وفصائل المقاومة كحزب الله وحماس، حتى يتمكن من إنجاز صفقة مناسبة مع إسرائيل وأمريكا يبدو إنجازها صعبا حتى اليوم. إن تخلي النظام السوري عن هذا التحالف أشبه بوقوفه عاريا أمام أمريكا وإسرائيل. لكن النظام السوري الحالي كان يفضل تاريخيا المواجهات الخلفية غير المباشرة بالواسطة مع إسرائيل، فهي عادة غير مكلفة بالنسبة إليه، خاصة في ما يتعلق باحتمالات تعرضه لهزيمة نهائية. ما عدا حرب تشرين 73 كانت كل المواجهات الإسرائيلية ـ السورية المباشرة محدودة وغير حاسمة، رغم أن دوره في استمرار المقاومات المختلفة ضد إسرائيل سمح له مثلا في تموز/يوليو 2006 بأن يعلن نفسه كأحد أصحاب الانتصار في تلك الحرب. كما استخدم المقاومة العراقية وحتى الأصوليين في تلك الفــــترة لإشغال الأمريكيين في العراق وإضعاف ضغوطهم عليه. ولم يتوقف النظام يوما رغم هذا عن تكرار رغــــبته بسلام على طريقة كامب ديفيد ووادي عربة مع إسرائيل نفسها، إن صلف طغمة تل أبيب يدفعها للاعتــــقاد أنها قادرة على الإمعان في إذلال النظام العربي الرسمي والحصول منه على تنازلات أكثر في المستقبل، مما يستطيع تقديمه اليوم. هـــــذه لعبـــة خطرة وتفترض بقاء النظام العربي الرسمي على حاله من ضعف وتهافت.
7 ـ لا يمكن كسب الحرب في لبنان من دون تغيير جذري في دمشق، في النظام أو في سياساته على الأقل. ما بدا أنه انتصار عسكري ساحق في صيف 1982 وحتى سياسي وشيك في أيار/مايو 1983 انقلب الى هزيمة حقيقية في عام 2000. هناك في لبنان دائما قوى مستعدة لمواجهة إسرائيل والقوى المتحالفة، أو المستعدة للتحالف معها، قوى يستطيع النظام السوري تشجيعها وإمدادها بسهولة بحكم الجغرافيا، مما يجعل أي انتصار إسرائيلي هناك مؤقت بالضرورة.
8 ـ الحرب مع إيران، إذا قررت أمريكا وتل أبيب الذهاب إليها، تختلف جذريا عن
الحرب في أفغانستان والعراق. بالطبع لا يمكن الآن التنبؤ بالدرجة التي أثر فيها انشقاق النخبة الحاكمة بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة على تماسك النظام، لكن القوات الإيرانية تتمتع بقدرات جدية على الرد، وهي في حال وجود إرادة سياسية حقيقية لدى النظام قادرة على إيلام أمريكا وإسرائيل. لا يمكن التنبؤ بسهولة بسلوك النظام الإيراني في حرب كهذه، لكن الأرجح أن النظام الإيراني مهتم بتحسين نفوذه الإقليمي أساسا وأن مواجهته مع إسرائيل وأمريكا تحمل طابعا دعائيا أكثر، وبراغماتيه هذه هي التي دفعته للتعامل تحت الطاولة مع المشروع الأمريكي في العراق وأفغانستان. يعرف النظام الإيراني، بفرض أنه يرغب بذلك فعلا، أن هناك صعوبة واضحة في تشكيل أي تهديد جدي سواء للنفوذ الأمريكي الحاسم في المنطقة أو للوجود الإسرائيلي، في ظل موازين القوى القائمة الدولية والإقليمية، لكن من جهة أخرى، فإن النظام الإيراني، كالسوري، لا يمكنه أن يثق لا بأمريكا أو إسرائيل وستبقى أية تسوية معهما، سابقة أو مستقبلية، في أحسن الأحوال مؤقتة وهشة. عدا عن أن ضرب النظام الإيراني القائم وإكمال الطوق الأمريكي ـ الإسرائيلي حول مصادر نفط الشرق الأوسط يشكل خطرا على القوى المنافسة لأمريكا، أو التي قد تفكر في منافستها على المدى البعيد، أو حتى على اقتصادياتها على المدى القصير، هذا سيهدد وحدة مراكز القوى العالمية في مواجهة النظام الإيراني. إن النظام الإيراني في موقع الدفاع فقط، لكنه دفاع قوي.
9 ـ يجب أن نضيف أيضا أحد العوامل المهمة وهو استقرار النظام العربي الرسمي
نفسه في حال نشوب حرب كهذه. كان احد أخطاء صدام القاتلة في حربه الأخيرة هو أنه لم يحتفظ، أو لم يستخدم، ما تبقى له من وسائل لاستدراج إسرائيل إلى المعركة، ولو بهجمات جوية أقرب للانتحارية، الأمر الذي كان سيزيد من قوة تأثيرها المعنوي على الشارع العربي. إن الحروب التي تفضلها إسرائيل وأمريكا ومعهما النظام العربي الرسمي، هي حروب خاطفة، لكن دروس حربي 2006 و2009 تؤكد أن مثل هذه الحروب أصبحت مستحيلة اليوم. ما تحتاجه قوى المقاومة بالفعل هو استدراج إسرائيل أو أمريكا لحرب طويلة، مع إبداء صمود جدي وإيقاع خسائر مهمة في صفوف العدو، والأهم هو استدراج إسرائيل للمعركة، الأمر الذي سيرفع حرارة الشارع العربي وسيهمش أي تجييش طائفي سابق وسيقلب الطاولة على إعلام الأنظمة المعتدلة، وستتكفل جرائم إسرائيل المتوقعة بالباقي. يجب أن نشير إلى التصاعد الهائل، وغير المسبوق في العقدين الماضيين، في كراهية إسرائيل مع حربي 2006 و2009، حتى أن معظم الفنانين العرب، تنافسوا في الغناء لغزة ولبنان على وقع المزاج الشعبي. النظام العربي الرسمي مهلهل، ورغم أنه يبدو متماسكا حتى اليوم لكن الاعتماد على قدرته على السيطرة على رد فعل الشارع أمر يحمل كثيرا من المخاطرة. يكفي أن نذكر كيف انقلب الوضع الاستراتيجي العام في الشرق الأوسط، الإسرائيلي خاصة، مع التحول المهم لكن ليس الجذري في سياسة دولة رئيسية كتركيا. إن حربا متوسطة الأمد ستحرج النظام العربي والعالمي الرسميين وستنتهي بصعود قوي لمعارضة الأنظمة العربية، الإسلامية غالبا. وإذا كان النظام المصري قد استخدم الإخوان بنجاح في الانتخابات البرلمانية السابقة كفزاعة لتخويف الغرب من توسيع الهامش الديمقراطي فإن هذه الفزاعة يمكن أن تتحول الى كائن من لحم ودم إذا تسببت جرائم إسرائيل وسياسات الغرب المنافقة وصمود قوى مقاومة ما على الأرض بإحراج النظام، ولنذكر أن البديل الأكثر احتمالا للنظام السوري هو نظام يلعب فيه الإسلاميون دورا رئيسيا، وهؤلاء حتى لو كانوا من ‘التيار المعتدل’ المستعد للتعامل مع الأمريكيين، كما فعل نظيرهم الحزب الإسلامي العراقي بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، لكن سقوط أجهزة القمع القائمة التي تلعب دورا بالغ الأهمية في قمع الإسلاميين، إضافة إلى أن التعامل مع الأمريكيين سيضعف من نفوذ قيادات هذا التيار المعتدل، سيؤدي كل هذا إلى تصاعد في وجود وتأثير القوى الأكثر راديكالية. حتى الحزب الإسلامي العراقي اضطر في فترة ما لممارسة سياسة مزدوجة، من جهة داخل العملية السياسية التي ترعاها أمريكا في العراق وضد الاحتلال في نفس الوقت، للحفاظ على دعم حاضنته السنية قبل أن يجد منفذا في الحرب الأهلية الطائفية ومواجهة النفوذ الإيراني كشعار شعبوي يستند إليه.
10 ـ لبنان بالفعل في حالة حـــرب أهلية محدودة بين أقسام نخبته السياسية والإكليروسية المتنافسة، الفرق هو أن الحرب الأهلية ستنقل الموت والقتل والمجازر إلى مستوى الواقع في الشارع. إن الحرب الأهلية القائمة على أساس طائفــــي لا تهز النظام القائم بل تعززه، كما تدل تجربة الحرب الأهلية اللبنانية الطويلة، وكما تدل تجربة العراق. الخاسر الحقيقي من تلك الحرب كان مشروع اليسار اللبناني الذي وقف إلى جانب مشروع الإقطاع السياسي ورأس المال السياسي الإسلامي كمشروع ‘وطني’ و’مناهض للمارونية السياسية’ من دون أن يمارس أي نقد لطبيعته الطائفية والفوقية والاجتماعية أو الطبقية أو تمايز عنه بسبب تلك الطبيعة، طبعا إلى جانب اللبنانيين العاديين من كل الطوائف والأديان.
11 ـ لا بد لقيام مواجهة مفتوحة في ظل كل تلك المخاطر، من وجود رئيس غبي في واشنطن، وآخر أكثر غباء في تل أبيب. لكن هذا يبقى احتمالا غير بعيد.
12 ـ يمكنك أن تبدأ الحرب، لكن لا يمكنك إيقافها متى شئت. وهناك احتمال كبير
جدا أن هذه الحرب ستكون على الأغلب من ذلك النوع من الحروب التي سيخسر فيها الطرفان، خاصة المنتصر. عادة ما تكشف الحروب عن أزمة النظم القائمة أو تعمقها أو تنتقل بنضال الجماهير إلى درجة أعلى وأكثر كفاحية، لقد استفزت حرب الخليج الأولى آخر قدرات الشعب العراقي النضالية في انتفاضة الشمال والجنوب، استعرضت الجماهير العراقية يومها لآخر مرة حتى الآن إرادتها في النضال في سبيل حريتها والتخلص من الاستبداد والقهر، لكن قمع نظام صدام وتجويع النظام الرأسمالي العالمي للشعب العراقي تكفل بكسر هذه القدرات لفترة من الوقت. تذكروا أنه بعد أن عادت جيوش الحكومات البرجوازية من ساحة الحرب العالمية الأولى منتصرة كان عليها أن تواجه لعدة سنوات ثورات اجتماعية داخلية عميقة وضعت النظام القائم برمته على المحك.هذا لا يعني أن الحرب هي تكتيك مقبول للجماهير الباحثة عن حريتها، إن هذه الجماهير هي وقود حروب النخب والطغم هذه، وقرار الحرب هو في الواقع بيد تلك النخب لا الجماهير ويخضع لمصالح تلك النخب والطغم لا الجماهير المهمشة والمستلبة. لكن جريمة كهذه، كما يقول التاريخ في أكثر من درس، كان عقاب الجماهير لأسيادها الذين دفعوها إلى المجزرة، مباشرا وشديدا، أكثر بكثير مما تصور الطغاة لحظة إصدارهم الأوامر بإطلاق الرصاصة الأولى من المجزرة.
‘ كاتب سوري