أكاديمية التحريض

اسكندر حبش
على الرغم من أن القرن المنصرم ـ (وربما يمكننا أن نضيف معه أيضا بداية القرن الحالي) ـ لم يقع برمته داخل مفهوم الاحتجاج، أي لم تصبح هذه الصفة الأخيرة، صفة رسمية له، إلا انه كان، بدون شك، الحقبة التي أعادت إدخال «الثورة» و«التمرد» إلى حياتنا ومفاهيمنا، أي أنها استعادتهما لتجعل منهما قيمة سياسية وفنية. فالأبطال والمصلحون كانوا دوما بمثابة ثائرين.
من بروميثيوس إلى سقراط، ومن المسيح إلى لوثر ـ وبالإمكان استعادة مئات الأسماء التي تنتمي إلى الحيّز ذاته ـ يبدو عالم الأفكار ينتج نفسه عبر إعادة طرح النظام المتعارف عليه، وتجديد الشك فيه كما لو أن قانون التغيير، يتطلب احتجاجا مستمرا. بيد أن الثورات التي حصلت، غيّرت الكثير، وبشكل جذري، في الأنظمة السياسية، إلا أنها لم تعد، في العمق، أداة في خدمة عملية الاستيلاء على السلطة. كلّ الوجوه الكبيرة، الإشكالية في هذا العصر، أي وجوه الفكر والحركة كانت وجوها موسومة بطابع الانخساف. لقد غَرَف القرن العشرون، من «الموديلات» الكبيرة المعذبة، كالمركيز دوساد، ونيتشه ورامبو (الشاعر) وغيرهم واعتبرهم النبع الحيّ لاحتجاج، أصبح صنوا للتغيير والحركة والعبقرية. فالعلاقة بين السياسة والفن لم تتأخر أبدا عن ربط أشكال الانخساف هذا ببعضها بعضا.
فالدادائية مثلا، والسوريالية، وفي ما بعد، حركة «البيت» الأميركية، وغيرها من الحركات، قامت بمعاركها الاحتجاجية المزدوجة: فالنظام السياسي والفني، الذي كانت عليهما أن تصارعها، كانا يشكلان في الواقع عدوا واحدا مشتركا.
أردنا ذلك أم لم نرد، أندمنا على ذلك أم لم نندم، نجد دائما أن هذا الارتباك بين السياسي والفني، كان من سمات عصرنا الذي يقيم علاقات غامضة ومبهمة بين رامبو وتشي غيفارا.
أصبح الاحتجاج هنا، قيمة مبجلة، بينما اتفق الفن والسياسة، ولفترات طويلة جدا، على قبول نظام رمزي وعلى احترام التقاليد، لذلك، ومع الأزمنة الحديثة، وجدنا كم أنهما أصبحا مشدودين إلى جميع أنواع السموم والإبداعات العائدة لهذه الفوضى والانخساف، أو لهذا التمرد.
من هنا، فان هذا الموضوع الذي يجب عليه أن ينعتق من دون توقف، من أسر عباده، ومن ثقافة التحريض والعبادة والجهل الذي يصفي حسابا قديما مع السلطة، لكنه معرض لان يسقط هو نفسه داخل امتثالية جديدة: أي ثمة نمط من الكسوف غير المشروط، من الفرادة عبر أي ثمن، من الهامشية «المبجلة»..
مع بداية قرننا هذا الذي انقضت منه ثماني سنوات، ماذا لو خطر في بالنا أن نسأل عن هذا الفن «الثوري»، التحريضي، المتمرد، الذي وجد صداه عاليا؟ ثمة جواب بسيط، انه فن، مهدد بأن يسقط داخل نسق ونمطية، أي أن يتحول إلى أكاديمية جديدة، ألا وهي أكاديمية التحريض. عندها، أيكون ثمة داع له؟