الحاجة إلى حضانة
منذر مصري
(إنها أكثر ما أحبّ في الكتاب)، هذا ما علق به الصديق ثائر ديب، مترجم كتاب (فكرة الثقافة) الذي أهداه مؤلفه المفكر الانكليزي المعروف تيري ايجلتون (1943-) إلى الراحل إدوارد سعيد، والصادر عن دار الحوار/2007/ – اللاذقية، وأنا أذكر أمامه الفقرة التالية: (أولئك الذين يدّعون الحاجة إلى فترة من الحضانة الأخلاقية لتهيئة البشر للمواطنية السياسية، يضمون في صفوفهم من ينكرون على الشعوب المستعمرة حقّها في أن تحكم نفسها بحجّة أن عليها أن تتحضر بما يكفي لأن تمارس ذلك بصورة مسؤولة. ويغفل هؤلاء حقيقة أن أفضل تهيئة للاستقلال السياسي هي الاستقلال السياسي ذاته).
ربما يستغرب المرء، كيف يمكن، في زمننا الراهن، لمن يشترطون الحضانة الأخلاقية لتهيئة البشر للمواطنية السياسية، أن يضموا في صفوفهم من ينكرون على الشعوب المستعمرة حقّ أن تحكم نفسها بنفسها؟! فكتاب ايجلتون هذا، كانت قد صدرت طبعته الأولى كفاتحة لسلسلة (بيانات بلاكويل– Blackwell Manifests) عام /2000/، وهو زمن بات فيه وكأن الجميع قد وصل لقناعة مؤكدة أن عهد الاستعمار قد ولّى، وحقّ الشعوب بتقرير مصيرها بات معترفاً به في كافّة المنظمات والهيئات الدولية، السياسية والحقوقية والإنسانية. ولكن، كما يبدو، إذا لم نحصر قول (ايجلتون) في دائرة التشبيه الضيقة، ما زال هناك من ينكر هذا الحق على شعوب تعاني ظروفاً معينة تستدعي عودة هذا الجدل، كالفلسطينيين والعراقيين، على سبيل المثال.
وأحسب أنه شيء حسن، أن يجد المطالبون اليوم بحقّهم وحق شعوبهم بالمواطنية السياسية في دول ليست قليلة في العالم، ومنها تقريباً كل الدول العربية، في أحد كتب مفكر معاصر بمكانة تيري ايجلتون كلاماً يدعم إدعاءهم بعدم الحاجة لفترة حضانة أخلاقية، لتهيئة (تربية) الشعوب لهذه المواطنية، ويزيد على ذلك بأن أفضل طريقة للتهيئة للمواطنية، (واسمحوا لي أن استبدلها الآن بكلمة: الديموقراطية) هي المواطنية (الديموقراطية) نفسها. إلاّ أن هذه المقاربة، تشبيه المواطنية بالاستقلال السياسي، ربما تلقي بعض ظلال الشك حول مدى مصداقية المقولة برمتها، لأنّ الدول التي نالت استقلالها، حدث فيها ما يبدو أنه خلاف ذلك.. فرغم ما كانت تعانيه هذه البلاد خلال فترة استعمارها من انتقاص في سيادتها الوطنية، ومن سياسات التمييز والتفريق التي كان يمارسها الحكام المفوضون والمندوبون الساميون، فإنها كانت تتمتع بمجالس نيابية منتخبة وحكومات وطنية وحياة سياسية حقيقية ما أمكن ضمن تلك الشروط، تجلت بتكوين حركة تحررية شعبية وسياسية ودبلوماسية بآن، تطالب بالحرية والاستقلال، دفعت بكتل كبيرة من الشعب لحالات من المقاومة وصلت لحد العصيان المسلح، كما أوصل الكثير من شخصياتها الوطنية البارزة إلى المنافي والزنازين. ولكن ما أن فازت هذه الدول باستقلالها، حتى راحت تتخبط في حالات من الفوضى وعدم الاستقرار السياسي الذي كان يؤثر على نحو شديد الوطأة على مجريات الأمور كافة. وقامت الانقلابات العسكرية بتتابعها السريع، بكسر ظهر نمو البلاد الطبيعي، وإعادته، كل انقلاب، إلى درجة الصفر، أو قبل الصفر، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.
ولكن السؤال هو: هل حقاً فازت البلاد المستعمَرة باستقلالها؟ هل حقاً خرجت منها الدول المستعمِرة إلى غير رجعة، تاركة لها أن تدبر أمورها بنفسها بما فيه مصالحها ومصالح شعوبها؟ أم أن ما احتفظت به من مفاتيح، وما خلفته من بنى تابعة، وما ربطتها به من صلات، يجعلنا نقول، وأظن تيري ايجلتون نفسه سيوافقنا، إنها لم تدعها لشأنها أبداً؟.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاللاذقية
· نشر هذا المقال في الملحق الثقافي لصحيفة (بلدنا) 11/2/2008
الحوار المتمدن
2008 / 2 / 12