بعد الذهاب قبل الوصل
تبدأ حياتك حينا من حيث انتهت طبقات من البهجة العميمة التي يحيطك بها ما يدعى محيط الأهل والأقارب ومواقع الطفولة الغضة.. هناك.. في المدن العتيقة الأولى.. مدن الرحم، ووصله!
وحين تقرر الذهاب “غربا”، مخلّفا وراءك تلك النفحة من الحنان التي لن تستعاد، تبدأ حيوات نبتت لقهوتها الصباحية مخالب! إنها القسوة المنظَّمة في مجتمع مبرمج و”سيستمايك” إلى حد تفريغ نقي الروح!
برد في الأصابع وبرد في اللهفة. مجتمع من “الأفراد” ذوي الاستقلالية المتعالية، تلتقي عيونهم سريعا في محطات المترو، ولا وميض!
أفراد يملكون إرادة الخيار، وسلطة المعرفة، وغطاء الاقتصاد، وحرية لا يصدمها إلا مجاوزة القانون، لكن لا رعشة!
أفراد في مجتمع مصلوب إلى ساعة من اسمنت، عقاربها تلدغ من يقسِرعن الدوران في سرعةِ عسفِ رحىً يومي لا يلين!
الكل مشغول، بدراية وتركيز عاليين، في تصريف الأعمال والمهمات بـ “مهنية” موصولة، قد لا تشوبها إلا انقطاعات غير متوقعة في سيالات العصب، الذي يزوع أحيانا عن إلحاح الآلة، ليلاحق فراشة تحلق في محيط من الزئبق!
فجر رمادي يدور حولك، ولا ألوان إلا ما تفرضها عليك مراكز التسوّق المبهرجة كبائعة هوى من الطراز الذي يقدّم على موائد أولي الأمر! أضواء تهاجمك، وبضائع تتحداك بجودتها، وبائعون مسعورون لرفع معدلات الا ستهلاك، وحفظ ماء وجه وجيب أمراء حروب وول ستريت!
فجر راجف يجعلك تنكمش إلى جسدك وتطوي قلبك تحت معطفك حتى تنسى أن لا يد دافئة تمتد في الصباح لتوقظ ما تبقى لك من عافية بشرية!
بعد الذهاب، وحين تتحول “فاطنا” عن مورّثات البداوة، وتخلع “عامدا” غريزة الاقتراب، تتضاعف المسافات بينك وبين النفس، ويرتفع سياج من الكترونات خفية، تنخر في عظم روحك، مساء مساء، لتحيلها إلى زوبعة من التناقضات، والخشونة، والشك!
بعد الذهاب، تصير اللغة الأولى نسغا في الدماغ، والحب الأول ايقونة، والأم المشققة جفافا من فراق الولد، تصير نبيا!
بعد الذهاب يستوي الذين يصلّون والذين لا يصلّون على سجادة فضة المَهاجر! يتداولك الكل، ويكرّمك الكل، ويحترم خصوصيتك الكل، وأيضا، ينفيك عنه الكل!
أين طلاّب الشهوة، وجارات الدردشة، وبائعو التوت، ومريدو النرجيلة، ومسوّقو النكتة، والأمويون بالفطرة؟
أين خيط الوصل من شلة حضرة الروح في غفلة من كمون الجسد؟
أين الوصل؟
أين؟!
مرح البقاعي